عبدالله راقدي
شكل الربع الأول من القرن الواحد و العشرين فترة بارزة في سلوك كل من إيران وتركيا حيث أناطت اللثام على نزعتهما الجيوستراتجية المحمومة حيال مسألة إعادة هندسة المنظومة الأمنية الإقليمية. و هذا بالاعتماد على موقعهما وموارد قوتهما المادية والمعنوية والثقافية للعب مثل هذا الدور. ورغم خضوعهما لنفس بنية النظام الدولي وارتباطهما ببيئة جغرافية جوارية واحدة وتاريخ ديني مشترك إلا أنهما تختلفان من حيث الدوافع والمنطلقات والأهداف، فهل لبنية النسق الدولي تأثير على سلوك هاتين الدولتين؟ وما هي دوافع وأهداف كل منهما؟ وإلى أي مدى يمكن الجزم بقدرة هاتين الدولتين في إطار مسعى الهيمنة على تفادي الدخول في نزاع مسلح؟ في البداية لابد من فهم المنطق الذي يحكم أداء بنية المنظومة الدولية.
نادي القوى العالمية ومسألة توزيع التكاليف
يتناسب تأثير البيئة الدولية طرديا مع ضعف الدولة، ما يستدعي العمل على تقوية الموقع باستمرار والحذر من تبعات الإخفاق في ذلك. فجون ميرشهايمر ينبه الدول العظمى فما بالك بالضعيفة، يقول:” إن بنية النظام تفرض على كل قوة عظمى – حتى من هي في وضع مريح في الوضع الراهن – أن تفكر وتتصرف كدولة مجبرة على مراجعة مكانتها باستمرار على سلم القوى العظمى،” أو المثل السائد عندنا والذي فحواه :” عد رجالك واسقي مالك”، مقولة تعكس في جوهرها فكر واقعي بحت. مقدمة أراها ضرورية لفهم سلوك الدول في المسرح الدولي الحالي.
ففي هذا السياق وبسبب تباطأ إعادة بعث روسيا و استمرار الصين في صعودها السلمي، استأثرت الولايات المتحدة الأمريكية بحصة الأسد في هندسة المعالم الجيوستراتجية للمشهد العالمي، مع إبلاء بعض الأدوار والوظائف لحلفائها على مستوى بعض الدوائر الجيوبوليتيكية. فهل يمكن اعتبار تركيا -الحليف التقليدي لأمريكا- أفضل خياراتها من أجل ضبط أداء النظام الإقليمي ومن ثم المساهمة في تكريس التفوق والهيمنة الأمريكية؟
تركيا الوكيل الحصري للغرب الليبرالي؟
في ظل انغماس العرب في حروب ونزاعات مدمرة حالت دون بروز دولة أو محور يحظى بثقة الولايات المتحدة ومن ثم يعتد به في تنفيذ أهدافها الإستراتجية، وفي ظل انكفاء أوروبا حول نفسها جراء تهديدات تفكك هيكلها الذي بدأ ببريطانيا ولن يتوقف عندها، وجراء تنامي دور اليمين المتشدد الحامل لأجندة مناهضة لقيم ما فوق الدولة، تأتي تركيا العضو في منظمة الحلف الأطلسي وبنظام سياسي يجمع بين قيم الديمقراطية وقيم إسلام الاعتدال السني لتشكل أفضل خيار يمكن أن يحمي المصالح الجيوبوليتيكية في المناطق التي يتعذر على أمريكا التواجد فيها. على اعتبارها بالنسبة للكثير من الشعوب المنجية والمخلصة لها من سطوة الأنظمة المتسلطة والعلمانيات المتصلبة. صرح راكس تليرسون أثناء مشاركته في منتدى “خزانات التفكير ولسون” أواخر 2017 بأن تركيا شريك مهم بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. فباعتبارها عضو منظمة حلف الأطلسي، ننتظر من تركيا أن تضع من أولوياتها الدفاع عن التحالف، و لا يمكن لا لروسيا ولا إيران ضمان مكاسب اقتصادية أو سياسية لتركيا كالذي يضمنه الغرب.
هكذا دشنت الإستراتجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط بالتخلص من الدول المشاكسة حلفاء الاتحاد السوفييتي سابقا (العراق، سوريا، ليبيا)، وبأدوات القوة الناعمة تسعى تركيا عبر استثمارات اقتصادية وإقامة علاقات تجارية وثقافية وتقديم مساعدات من أجل إقامة أنظمة وحكومات تدين لها بالولاء لاسيما في البلدان التي يحظى فيها تيار الإخوان بشعبية كم حصل في مصر، المغرب، تونس. ولأن الفعل الجيوستراتجي يقتضي الوجود العسكري فقد دشنت تركيا مسارها بإقامة قواعد عسكرية في كل من قطر والصومال والسودان. ففي السودان وأثناء زيارة أردوغان تم الاتفاق على أن تمنح السودان جزيرة سواكن لتركيا لمدة 99 سنة. وهذه الجزيرة كانت ملكية للإمبراطورية العثمانية على البحر الأحمر. وستشيد عليها تركيا قاعدة عسكرية، والانطلاق لشغل فراغات جيوستراتيجية في آسيا وفي إفريقيا بهدف محاصرة الصين أساسا وقطع الطريق أمام إيران الساعية إلى فتح رواق في اتجاه إفريقيا. وماذا عن إيران اذن؟
إيران مشاكسة غير مأمونة الجانب
لم تنجح العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على إيران منذ 1979 على ثني هذه الأخيرة من المضي قدما في نهجها الثوري المناهض لمصالحها، بل وتمكنت من فرض نفسها كطرف في معادلة بناء الأمن القومي الإقليمي الذي لا يمكن تجاوزه. كما هو وارد في العديد من التقارير على غرار تقرير مؤسسة بلومبيرغ الأمريكية الذي جاء فيه:” أن إيران لم تعد دولة منبوذة عالمياً،لا بل على العكس تماما فقد باتت تتمتع بعلاقات قوية مع روسيا لاسيما في الموضوع السوري. ولها مصالح مشتركة متزايدة مع تركيا حول قضايا تخص الأكراد وحكومة بغداد. ورغم الحصار الاقتصادي فقد أجبرت أمريكا على الإقرار لها بحقها في صناعة نووية سلمية وإبرام الاتفاق مع الأوروبيين وروسيا والصين أي 5+1، وهي الآن في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة بخصوص نظام برنامجها للصواريخ الباليستية.
استراتيجيا يمكن الإقرار بفشل الولايات المتحدة في إطباق حصارها على إيران بدليل وجود علاقات وثيقة مع معظم بلدان العالم. بل وعبر دعم الحكومة السورية في محاربة الجماعات الإرهابية أسست مع منظمات المقاومة في لبنان والعراق وسوريا ما يسمى بمحور المقاومة. الذي بواسطته استطاعت إيران وبمساعدة روسية في 2015 من إفشال توسيع الفوضى المدمرة التي خطط لها للامتداد والانتشار في كامل المنطقة. مع ذلك الاستراتيجية الأمريكية شغالة وغنية بالتكتيكات والتقنيات المناسبة بحسب الزمان والمكان، ففضلا تصريحات إدارة ترامب بإمكانية إلغاء الاتفاق النووي وعدم التزامه برفع العقوبات كنتيجة لإبرام الاتفاق، وبسبب ما يراه تهديد نظام برنامج الصواريخ البالستية للأمن العالمي أعلن عن عقوبات جديدة في حق إيران. بل وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت العديد من المدن الإيرانية والتي كانت ذات دوافع اقتصادية معيشية أساسا مع وجود مطالب ذات صلة بإطلاق الحريات والحقوق المدنية. فالعديد من المهتمين يرجعونها إلى تأثيرات العقوبات الأميركية ، وهي مؤشر أراه بطاقة إنذار في حق الحكومة بل وفي وجه النظام ، ومن جهة سيؤدي بإيران إلى مراجعة استراتيجياتها الإقليمية والاهتمام بالداخل، فهل نشهد استراتيجية إيرانية جديدة تستند إلى شعار ” إيران أولا”.
تركيا وإيران: التصادم العسكري ممنوع؟
كما هو الحال بالنسبة لبدايات كل قرن، يجري في هذه الفترة تنافس شديد بين مختلف القوى العالمية من أجل هندسة معالم النظام الدولي. ففي هذا السياق عرفت العلاقات الإيرانية التركية تجاذبا محموما تداخلت فيه الأبعاد المذهبية الطائفية العرقية التاريخية مع المكانة الجيوبوليتيكية وبنزعات الهيمنة الجيوستراتيجية والنفوذ الإقليمي في مسعى هندسة النظام الأمني الاقتصادي الإقليمي. فلقد أدى بروز مؤشرات نجاح تشكل محور إيران العراق سوريا لبنان، إلى اتضاح تبلور محور روسيا بوتين/الصين الذي أبان عن استراتيجيته في قولبة نظام أمني إقليمي يجعل مصالح الغرب الحيوية على المحك. فأمام هذا الوضع وفي ظل غياب دور أوروبي ضامن وبقاء العرب أوفياء لمنطق حرب “داحس والغبراء،” تبقى تركيا الخيار الأفضل لاعتبارات الجغرافيا والثقافة والتاريخ لحجز أطلال ما بعد ثورات التدمير العربي.
ولأن صانع القرار التركي عقلاني يقوم ويقيم نتائج الفعل بثنائية المكاسب/ التكاليف، انطلاقا من شعار “أعداء أقل أصدقاء أكثر”، لاسيما في ظل وجود طرف إيراني يجيد إدارة اللعبة الإستراتيجية بكفاءة عالية، فقد وجد نفسه يتفاعل وفق مقاربة رابح/ رابح. اتضحت جدوى هذا التوجه من الانخراط التركي في النزاع السوري، فحينما تبين لها أن مخاطر ارتدادات المأساة السورية مكلفة لأمنها القومي (إمكانية تشكل كيان للأكراد مستقلا)، تقاربت مع إيران وروسيا. ويبدوا أن صانع القرار يسعى للاستثمار الاستراتيجي في المناطق التي لم يتسنى لإيران التواجد فيها على غرار قطر، السودان الصومال. ولقد ساعد هذا التوجه في توسيع دائرة التفاهمات بينهما مواقف ومجالات متعددة. من ذلك وقوف إيران مع الحكومة التركية ضد محاولة الانقلاب للإطاحة بحكم الرئيس أردوغان. وانعكس هذا التحول بإعلان تركيا وقوفها إلى جانب الحكومة الإيرانية بسبب ما يعرف بإحداث تحسين المعيشة والحريات التي اندلعت في الكثير من المدن الإيرانية. ويبدوا أن لا صوت يعلو فوق صوت الاقتصاد بين الأمتين حيث تتجاوز التبادلات التجارية بينهما لأكثر من 35 مليار وهي مرشحة للارتفاع في السنوات القادمة.
واخلص: إلى أن المنطقة ستنتهي مع نهاية النصف الأول من هذا القرن إلى استقرار الهيمنة على غرار الفترات الأولى من كل قرن، ومن دون شك سيكون لتركيا وإيران دور إقليمي مهم، غير أنه وفي ظل عدم القدرة على التحول إلى فواعل جيوبوليتيكية عالمية تبقى المواجهة المسلحة غير واردة على المستوى المنظور والمتوسط.