مقالات

الأمن الإقليمي لمنطقة غرب آسيا .. التّحديات والاتجاهات الحديثة

 
 
 
بقلم : السفير شربل وهبة
 
كي يبلغ مبتغاه، يجب أن ينطلق أيّ نقاش حول التعاون الإقليمي في مجالَيْ الأمن والدفاع من تحديد واضح ومتّفق عليه للأخطار Threats والتحدّيات Challenges . تحديد الأخطار والتحدّيات المشتركة، وفق قائمة أولويات واضحة، هو الخطوة الأولى في بناء تعاون دولي إقليمي جدّي وذي أفق. لأنّ الأخطار والتحدّيات لا تزال مسائل خلافية ومتفاوتة الأهمية بين دولة وأخرى.
 
من منظور للبنان، تواجه المنطقة ثلاثة أخطار/ تحدّيات أساسية خطيرة التداعيات، وتستدعي تعاوناً إقليمياً للتصدّي لها.
 
ـ التحدّي الأوّل هو تحدّ محض إقليمي، وهو المشروع الصهيوني المتجسّد في الكيان «الإسرائيلي».
 
ـ التحدّي الثاني هو تحدّ ابتدأ إقليمياً وانتهى عالمياً، وهو الإرهاب التكفيري ما يعكس موقع المنطقة وهامش تأثيرها في الاجتماع السياسي الدولي، ويكرّس بالتالي أهمية التعاون الإقليمي فيها .
 
ـ التحدّي/ الخطر الثالث يستعصي على التصنيف، لأنّه ثقافي/ سياسي ينبع من المنطقة، لكنّ حجمه يفيض عنها، وهو الصدام المذهبي.
 
«إسرائيل» وديعة الاستعمار السامة. منذ إنشائها على أرض فلسطين وأرواح وممتلكات أبنائها، خلافاً لحركة التاريخ وطبائع نشوء الأمم، والمنطقة لم تعرف يوماً من الاستقرار الحقيقي. عدم الاستقرار الأمني كان نتيجة حتمية ترتّبت على خلق هذا الكيان الغاصب: إذ اختار الكيان الصهيوني العدوانية سياسةً عامة ترقى إلى الاستراتيجيا التأسيسية. ومارس الاحتلال والقتل والتشريد وسرقة الحقوق، ما عنى حروباً امتدّت من فلسطين إلى مصر فالأردن وسورية وصولاً إلى لبنان. وإذا أضفنا إلى ذلك المشروع النووي «الإسرائيلي» القائم والمستمرّ، رغم أنف القانون والمجتمع الدوليين، فإنّ هذا الخطر الأمني يتظهّر في حجمه الحقيقي الجسيم، وطبيعته الوجودية.
 
كيف يمكننا مواجَهة هذا الخطر الصهيوني؟
 
تحضرني هنا قصة رواها الرئيس السابق لفنزويلا، المرحوم هوغو تشافيز، عندما كنت سفيراً للبنان في بلاده.
 
قال الرئيس تشافيز إنه كان يخاف في صغره من وحشٍ خياليٍ ولما صارح جدّته بشأن هذا الخوف، سألته الجدّة: «هل هذا الوحش أكبر منك؟» «فأجابها: «نعم، هو أكبر مني». وسألته أيضاً: «هل هذا الوحش أقوى منك؟». فأجابها: «نعم، هو أقوى مني». فسألته الجدة أخيراً: «وهل، إذا هربت، سوف يلاحقك ويتمكّن من القبض عليك؟» فأجاب تشافيز الصغير: «نعم يا جدّتي، فهمت الموضوع جيداً… فما العمل؟».
 
فقالت له جدته ما يلي: «العمل أن تقف أمام الوحش وتنظر في عينيه. وتقول له: أنا لستُ خائفاً منك!».
 
وهكذا تماماً رفض لبنان الخوف والاستسلام واختار المواجهة بعزم وإيمان وتصميم، مع كلّ ما يمكن أن ينجم عنها من صعوبات وجهود وآلام وأضرار، بوجه تحديات متعدّدة ومترابطة أهمّها:
 
وجود الكيان الصهيوني الذي اغتصب فلسطين وهدّد واحتلّ واعتدى ولا يزال سائراً بممارساته ضارباً بعُرض الحائط القانون الدولي
 
ـ التطرّف والتكفير والإرهاب، ومجموعاتها المسلحة، والتي يقف وراءها الكيان الصهيوني نفسه
 
ـ ما نشهده حالياً من محاولات فرز طائفي في بعض دول المنطقة ومحاولات إنشاء دول طائفية ومذهبية عبر تأجيج الحروب والنزاعات الداخلية والخارجية مع ما ينجم عنها من دمار ونزوح وتهجير.
 
ويفخر لبنان بأنّه يوفّر نموذجاً متقدّماً في هذا المضمار، لكن قلّةً تتذكّر أنّ لبنان كان فعلياً الدولة العربية الأكثر تضرّراً من عدوانية «إسرائيل» بعد فلسطين نفسها. بدءاً بالنكبة واستضافته لمئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني المطرود من أرضه، وعلى امتداد سبعة عقود، وصولاً إلى الحروب العربية «الإسرائيلية» الكبرى الثلاث، إلى احتلال نصف لبنان مع عاصمته في اجتياح العام 1982، إلى عدوانَيْ 1993 و1996، ووصولاً عند حرب تموز 2006، فاستطاع بكل فخرٍ من إنهاء الإحتلال «الإسرائيلي» لأغلبية الأراضي اللبنانية عام 2000، وانتصر على العدوان «الإسرائيلي» عام 2006 واستطاع عام 2017 من دحر المنظمات الإرهابية التكفيرية على الحدود الشرقية مع سورية
 
كما نجح بالنأي بنفسه عن النزاعات في المنطقة بغية وضع حدّ للتدخلات الأجنبية في شؤونه الداخلية.
 
ولكن لا بدّ أيضاً من تأكيد تمسكنا بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي وفق مندرجات مبادرة السلام العربية ، وبقاء خيار المقاومة كخيار ضروري وحاسم ومشروع بانتظار اقتناع «إسرائيل» بأن لا مفرّ من السلام وفق الشروط التي تناسبنا.
 
تلك التحديات لا تهدّد لبنان فقط، بل تطال منطقة غرب آسيا بأكملها، وسأحاول في ما يلي الإضاءة على العوامل الأربعة هي التي مكّنت لبنان من مواجهتها بنجاح وفعالية:
 
أولاً: الإيمان بالقضية
 
لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال الكفاح من أجل قضية إنْ لم نكن مؤمنين بحقّ بها. ولا يمكن أن نجد إيماناً صادقاً في أيّ قضية دون إيمان في الله عزّ وجل. فالشعب اللبناني، بكافة مكوّناته وأديانه وطوائفه، شعبٌ مؤمنٌ بنى منذ زمان بعيد أسلوب عيشه على التقوى والإيمان. فإنّ قوة الإيمان تؤدّي إلى الاقتناع بأحقية القضية والجهاد من أجلها بنجاح. وهذا ما فعله الشعب اللبناني… بالرغم من المحاولات اليائسة لاستغلال إيمان شعبه كأداة تفريط وتحكم وسيطرة.
 
ثانياً: التجذّر في الأرض
 
إنّ عامل النجاح الثاني لمواجهة التحديات المذكورة أعلاه هو التجذّر بالأرض والتمسك بها، بالرغم من الصعوبات والمخاطر والتهديدات كافة. فلبنان يعرف جيداً أهمية الأرض وقد سكن شعبه بمكوناته كافة جباله الوعرة وصعبة المناخ من أقصى جبال شمال لبنان إلى جبل عامل جنوباً، هروباً من الاضطهادات والاعتداءات والحروب. فهل يعقل أن يتخلى المرء عن أرض حمته، مهما كانت صعبة ظروف العيش فيها؟ كلا… إنّ تثبيت جذورنا في الأرض يمتّن عزمنا وصمودنا في وجه التحديات.
 
ثالثاً: التمسك بالتنوّع والتعددية والانفتاح
 
إنّ التنوّع والتعدّدية وروح الانفتاح وثقافة الحوار هي من أسمى المبادئ التي يقتضي التمسك بها عند مواجهة الصعوبات أو التحدّيات. بالرغم مما قد يعتقده البعض، فإنّ وجود أوجه اختلاف في الآراء والمواقف ووجهات النظر هو ضروري وصحّي لأيّ مجتمع.
 
ولبنان متمسّك بتعدّديته وتنوّع مكوّناته الدينية والطائفية منذ قرون عديدة، ويدرك جيداً أهمية حماية هذه التعددية لكونها ثروة تجب حمايتها مهما كلّف الثمن. فهل من مثل أجمل عن التعددية في لبنان أن يكون أحد أول الكتب الصادرة عن أول مطبعة استُقدمت إلى لبنان والمشرق مطلع القرن السابع عشر هو كتاب «تاريخ المسلمين» للبطريرك المسيحي الماروني اسطفان الدويهي؟
 
رابعاً: التطلّع إلى السلام
 
قد يبدو مستغرباً للبعض أن يكون التطلع إلى السلام من عوامل النجاح في مكافحة التحديات الأمنية التي نواجهها، وقد يعتبر البعض، خلافاً لذلك، أن خيار القتال قد يكون أكثر فعالية للانتصار من الدعوة إلى السلام. إلاّ أنني أختلف مع أصحاب هذا الرأي وأرى في التطلع الدائم إلى السلام المسار السليم تجاه مقاومة أيّ تحدّ.
 
وهنا لا بدّ من أن أتوقف قليلاً للإيضاح بأنّ التطلّع إلى السلام لا يعني بأيّ شكل من الأشكال الاستسلام والإحجام عن ممارسة حقّ الدفاع المشروع عن النفس، وهو حق منصوص عليه في الشرائع الدولية كافة، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة. فليس للبنان أية نزعات اعتدائية، ويتطلع اليوم إلى سلام في المنطقة لأنّ الشعب اللبناني يريد السلام شرط ألا يكون سلاماً مفروضاً بحكم بميزان قوى مختلّ، وبالتالي غير مستديمٍ ولا معنى له. لا بل إنّ المطلوب، والذي لا مفرّ منه أو بديل عنه، هو سلام الأقوياء، السلام العادل والشامل الذي يتأسّس على استعادة الحقوق وحفظها وتكريسها لأصحابها.
 
وقد برهن لبنان عن مدى مناعته في كنف الظروف الصعبة والخطيرة التي تمرّ بها المنطقة، باحتفاظه باستقراره وأمنه وسلامة أراضيه بفعل وحدته الوطنية وجيشه الباسل ومقاومته، ومجتمعه المستضيف المهجّرين والنازحين واللاجئين، بالرغم من الأعباء الكبيرة التي يتحمّلها. أيضاً، وبالتوازي، بفعل الإرادة الحقيقية لأبنائه لاستعادة الاستقرار المؤسّسي كأولوية وطنية.
 
وليس لديّ أدنى شك في أنّ شعوب المنطقة، لا سيما الشعب الفلسطيني، قد قامت على غرار الشعب اللبناني، باتخاذ قرار رفض الخوف ومقاومة التحديات، فهي شعوب مؤمنة بقضيتها ومتمسكة بأرضها وبتعدّدية مجتمعاتها وروح الانفتاح وثقافة الحوار فيها، وتتطلّع دائماً إلى السلام. وفي المقابل، نجد الصهاينة الذين يسعون لإنشاء دولة عنصرية أحادية اللون على أسس دينية وعرقية ويعتدون ويتغطرسون ويهدّدون ويتدخّلون في شؤون الدول الأخرى ويضغطون لإشعال وتأجيج النزاعات ويموّلون الإرهابيين ويفاخرون بنبذ خيار السلام.
 
جمعت شعوب المنطقة هذه العوامل الأربعة المذكورة أعلاه. فهل تمكّنوا من إزالة التحديات بشكل تامّ؟ الجواب هو كلا… إذ نلتقي اليوم و«إسرائيل» لا تزال تمثّل خطراً يومياً وداهماً على لبنان والمنطقة. فالكيان «الإسرائيلي» قائم على الأراضي الفلسطينية ويعتمد مبدأ القوة والاحتلال والتهجير وسلب الحقوق والاستيطان، مستفيداً من حق الفيتو وممارسة «الدلع» الدولي. آخر مثل على هذا الدلع، القرار الأميركي حول القدس واستمرار «إسرائيل» بمحاولة تهويد زهرة المدائن.
 
ففلسطين ليست فقط دولة بل هي قضية، والقدس ليست فقط مدينة بل هي رمز مقدّس. ونحن هنا اليوم أيضاً فيما الإرهاب ما زال، بخلاياه النائمة، يهدّد المنطقة والعالم.
 
وإذا كان من عامل إضافيّ خامس لبلوغ هدفنا المرتجى، فإنّني أرى أنّه يكمن في عنوان هذه الحلقة، ألا وهو التعاون بين الدول ووقوف الدول الصديقة والشقيقة جنباً إلى جنب في مواجهة التحديات. إنّ هذا التعاون الوثيق والتنسيق على نطاق واسع، لا سيما في مجالي الأمن والدفاع، الذي سوف يساهم بنزع التحديات من جذورها هو غير موجود حالياً لتمكن دول المنطقة من السير نحو الاستقرار والطمأنينة والازدهار الاقتصادي. ما نحن بحاجة إليه اليوم أكثر من أيّ وقت مضى هو تعاون إقليمي مبنيّ على احترام الآخر والحوار والثقة على المستويات كافة.
 
أما السؤال الطبيعي الذي يلي، والذي يجب التباحث به هو: كيف ننشئ هذا النظام التعاوني الإقليمي؟