باراك بارفي
في 20 كانون الثاني/يناير، شنّت تركيا عملية عسكرية لتطهير القوات الكردية من محيط المنطقة الحدودية عفرين في شمال غرب سوريا. وعلى الرغم من تبريرات أنقرة، تثير العملية مخاطر اندلاع حرب مفتوحة بين الحلفاء، وقد تؤدي إلى إبطال المكاسب التي تحققت ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلى جانب تشجيع خصوم أمريكا في طهران وموسكو ودمشق. ينبغي على واشنطن التحرك بأسرع وقت ممكن لاحتواء التداعيات وضمان خاتمة سلسة لحلفائها؛ وإلا فقد تجد نفسها مهمشة تماماً في سوريا.
رَسْم الخط الذي وضعه اردوغان وتجاوزه
في تموز/يوليو 2012، تنازل نظام الأسد عن جيب عفرين والمناطق الحدودية الأخرى إلى «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردستاني. وبدعم من الولايات المتحدة، انضم الأكراد بعد ذلك إلى العديد من الكتائب الصغيرة للمتمردين العرب وشكّلوا «قوات سوريا الديمقراطية» في تشرين الأول/أكتوبر 2015. وبمساعدة الضربات الجوية الأمريكية، وتوريد الأسلحة وتدريب «القوات الخاصة» من قبل الولايات المتحدة، شكّلت «قوات سوريا الديمقراطية» العامل الرئيسي الذي أدّى إلى انهيار تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا.
يضم جيب عفرين حوالي 4,030 كيلومتر مربع. وفي شباط/فبراير 2016، وبغطاء من الضربات الجوية الروسية، استولت قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» على بقعة إضافية يبلغ طولها نحو 17.2 كيلومتراً وعرضها 44.2 كيلومتراً.
وتشكك أنقرة في «حزب الاتحاد الديمقراطي»، الذي يدور في فلك «حزب العمال الكردستاني» الذي يقاتل الحكومة التركية منذ عام 1984. وفي تموز/يوليو 2012، حذّر الرئيس رجب طيب أردوغان من أن التدخل ضد «حزب الاتحاد الديمقراطي» في سوريا هو “حقنا الطبيعي”. ومنذ ذلك الحين، أعلن وبشكل قاطع أنه لن يقبل أبداً بوجود دائم لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» في الجنوب، وبدأت القوات التركية بقصف مواقع الحزب في عام 2014. وفي البداية، اقتصرت الضربات على بلدتي كوباني وتل أبيض شرق نهر الفرات، إلا أنها أصبحت أكثر انتشاراً وتواتراَ على مر السنين.
وفي حزيران/يونيو 2015، خلص “مجلس الأمن القومي” التركي إلى أن أي تحرك يقوم به «حزب الاتحاد الديمقراطي» غرب نهر الفرات يشكّل خطاً أحمر وسيستلزم الرد بقوة أكبر. وبعد أن عبر الأكراد النهر للاستيلاء على مدينة منبج، نفّذت تركيا تهديدها أخيراً من خلال إطلاق عملية «درع الفرات» في آب/أغسطس 2016. وعلى الرغم من أن تركيا أعلنت صراحة أن هدفها هو إزاحة تنظيم «الدولة الإسلامية» من المنطقة الحدودية، غير أنّ هدفها الحقيقي كان منع «حزب الاتحاد الديمقراطي» من ربط إقليمه الشرقي بجيب عفرين.
وانتهت عملية «درع الفرات» رسمياً في عام 2017، ولكن دوافعها قد استمرت. وفي كانون الثاني/يناير من هذا العام، ذكر متحدث عسكري أمريكي أن واشنطن تخطط لتحويل «قوات سوريا الديمقراطية» الى قوة حدودية. وبعد ذلك بوقت قصير، بدأت تركيا بتكثيف عمليات القصف التي تشنها ضدّ عفرين وقرع طبول الحرب في حين وجّهت نقداً لاذعاً للولايات المتحدة. وسرعان ما تراجعت واشنطن، ولكن التَخم الخطابي قد تم تجاوزه.
التحديات العسكرية التركية
في 20 كانون الثاني/يناير، أطلقت تركيا عملية «غصن الزيتون» التي بدأت بغارات جوية ثم وسعت نطاقها لتشمل هجوماً برياً في اليوم التالي. وركزت عملية إطلاق النار على ستة قطاعات تشمل جبل برصة في الشرق، وبلبل وشنكال في الشمال، وراجو وشيخ الحديد في الغرب، وجنديرس في الجنوب. وتهدف أنقرة إلى الاستيلاء على المدن التي تحاصر الحدود. ومع ارتفاع يصل إلى 2,000 قدم، تطلّ هذه المدن على الوادي الذي تقع فيه مدينة عفرين، لذلك سيؤدي الاستيلاء عليها إلى قطع الجيب في اتجاهين، مانحاً تركيا السيطرة على كامل الحدود الغربية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاستيلاء على جنديرس سيضع حدّاً للقصف الذي تتعرض له مدينة ريحانلي الحدودية المحاصرة في تركيا. كما ويشكل الاستيلاء على طريق عفرين – راجو هدفاً رئيسياً أيضاً.
وفي 30 كانون الأول/ديسمبر، عملت نحو ثلاثين وحدة متمردة من «الجيش السوري الحر» على توحيد صفوفها وأنشأت مجموعة جديدة أطلقوا عليها اسم «الجيش الوطني»، الذي يقاتل الآن جنباً إلى جنب مع القوات التركية في عملية «غصن الزيتون». ومن بين الجماعات الأكبر تحت مظلة «الجيش الوطني» وحدات «فيلق الشام»، و«جيش النخبة» و«الجبهة الشامية». وفي هذا الصدد، ادّعى مسؤول في «فيلق الشام» أن 25 ألف متمرد قد شاركوا في العملية، في حين قال مسؤول في «جيش النخبة» أن هذا العدد بلغ 13 ألف فرد، أمّا “المرصد السوري لحقوق الانسان” فقد قدّر مشاركة نحو 10 آلاف فرد. وقد يكون العدد الحقيقي أقرب إلى 7 آلاف سوري. ولم يفصح الأتراك عن عدد القوات التي خصصوها لعملية «غصن الزيتون»، إلا أنهم أرسلوا 4 آلاف فرد لعملية «درع الفرات». ووفقاً لرئيس الوزراء بن علي يلدريم، فإن القوات التركية تواجه الآن بين 8 و10 آلاف مقاتل من «حزب الاتحاد الديمقراطي».
من الناحية العسكرية، يعتبر جيب عفرين هدفاً سهل المنال، وقد تم قطعه عن المناطق الأخرى التي يسيطر عليها «حزب الاتحاد الديمقراطي» منذ تموز/يوليو 2012، كما وتحيط به تركيا وحلفاؤها من جميع الجوانب. وقد سهّل ذلك وقوع هجوم متعدد المحاور غير ممكن في مناطق مثل منبج التي تقع في أقصى الشرق، حيث يكون الاتصال الوحيد بين الجانبين على الحدود. كما يجعل إعادة الإمدادات صعبة للغاية بالنسبة للأكراد في عفرين، الذين يعتمدون كلياً على سخاء نظام الأسد. وفي الوقت الراهن، تهدف دمشق إلى استنزاف تركيا، لذلك أعطت الأكراد مجالاً كبيراً في المعركة. ويمكن للروس المتقلبين بنفس القدر أن يغلقوا المجال الجوي في عفرين أمام الطائرات التركية في الوقت الذي يروه مناسباً.
قد تواجه تركيا أيضاً بعض الصعوبات نفسها التي واجهتها في خوض صراع غير متناظر خلال عملية «درع الفرات»، حيث أن اعتمادها على الدروع الثقيلة تركها عرضة للوحدات المتنقلة الخفيفة المزوّدة بصواريخ مضادة للدبابات. كما تفتقر ترسانة الدبابات القديمة إلى الدروع الكافية للحماية ضد الأجهزة المتفجرة المرتجلة التي يمتلكها «حزب الاتحاد الديمقراطي». وعند مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، تعرضت القوات التركية إلى ضغط شديد للقيام بعملية مسلحة مشتركة بين الوحدات المدرعة والمشاة، في حين لم يكن الدعم الجوي القريب للقوات الميدانية متوفراً – وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت معركة الباب تستغرق ثلاثة أشهر. فقد عجزت الوحدات عن الصمود ضد المقاتلين المتخلفين لتنظيم «الدولة الإسلامية» بعد التقدم التي أحرزته، واضطرت إلى الاعتماد على «الجيش السوري الحر» للتخفيف من وطأة الضغط. وفي هذا الإطار، تكشف أصول الفدائيين في «حزب الاتحاد الديمقراطي» وقدراته الهجينة نفس مواطن الضعف. وبما أنّه قد تمّ تطويق القوات الكردية، فلن تتمكن من الهرب من البلدات كما فعل تنظيم «الدولة الإسلامية» في دابق وجرابلس بمجرد انضمام تركيا للعمليات القتالية.
وتخلق الجغرافيا والطقس عوائق أيضاً. وقد أدت الظروف العاصفة إلى إبطاء تقدم تركيا في 26 كانون الثاني/يناير، مما أدى إلى تحول الرمل إلى وحل وعجزت الطائرات النفاثة عن الطيران بسبب الضباب. كما أنّ الجزء الأكبر من جيب عفرين مكوّن من تلال، مما يجعل من الصعب استخدام المركبات المدرعة. وباختصار، ستكون عملية «غصن الزيتون» أكثر تحدياً من «درع الفرات»، ويُعزى ذلك لجميع الأسباب المذكورة أعلاه.
أهداف أنقرة الحقيقية
أدلى القادة الأتراك ببيانات متضاربة حول أهداف العملية الحالية وإطارها الزمني. وأعلن أردوغان عن رغبته في عودة اللاجئين إلى سوريا، وإنهاء قصف «حزب الاتحاد الديمقراطي» لتركيا، ومواصلة القتال إلى أن يتم “تحييد” الجماعة. وقال في 21 كانون الثاني/يناير إنّ العملية ستنتهي “في وقت قصير جداً”، لكنّه أعلن بعد ذلك أنّها ستتقدّم الى الحدود العراقية بعيداً نحو الشرق.
وكان رئيس الوزراء يلدرم أكثر تحديداً، إذ أفاد أنّ عملية «غصن الزيتون» ستُنشئ منطقة آمنة على عمق ثلاثين كيلومتراً على أربع مراحل. ووفقاً لتغريدة صادرة عن مكتبه، تهدف العملية إلى مساعدة «الجيش السوري الحر» على الاستيلاء على مساحة 10 آلاف كيلومتر مربع، على الرغم من أنّ جيب عفرين الكردي لا يتجاوز ثلث هذا الحجم. وأشار المكتب أيضاً إلى ضرورة منع «حزب العمال الكردستاني» من الوصول الى البحر المتوسط من خلال الاستيلاء على جبال الأمانوس في تركيا التي سبق أن هاجمتها الجماعة في الماضي.
ولكنّ الهدف العسكري الحقيقي لأنقرة يكمن في إنهاء الدعم الأمريكي لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وجمع الأسلحة التي استلمتها الجماعة، وإجبار الأكراد على الانسحاب إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات. ومن الناحية السياسية، يأمل أردوغان في تعزيز دعمه قبل الانتخابات التي قد تنطلق قبل موعدها المقرّر في عام 2019؛ وفي الواقع، جاءت معظم تعليقاته على العملية ضمن فعاليات على غرار حملات انتخابية.
تهديد للعلاقات الأمريكية – التركية
وصلت علاقة أنقرة مع واشنطن إلى الحضيض، وغالباً ما تُعزى أسباب هذا الصدع إلى تزايد استبداد أردوغان وتعليقاته المعادية للأجانب. ولكن إنصافاً له، أخفق القادة الأمريكيون مراراً وتكراراً في الوفاء بوعودهم تجاه «حزب الاتحاد الديمقراطي» وإزالة قلق اردوغان بشأن توسّع الجماعة. وأصبحت الحكومتان الآن على خلاف، غير قادرتان حتى على الاتفاق على مضمون المحادثات الرئاسية. وفي ظل الجوّ الحالي، فمن المشكوك فيه أن تستطيع واشنطن عمل أي شيء للحدّ من التوتّرات سوى التخلّي عن الأكراد.
ولكن حتى هذا الخيار المثير غير ممكن أيضاً، نظراً إلى أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يزال يشكّل تهديداً في سوريا، ويبقى «حزب الاتحاد الديمقراطي»/و«قوات سوريا الديمقراطية» الشريكين الرئيسيين لواشنطن في مواجهته. ففي 19 كانون الثاني/يناير، على سبيل المثال، لاحظ مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية الأمريكية “المعركة الوحشية” المستمرّة ضد الجماعة على جانبي نهر الفرات. وبعد أسبوع، استولت قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» على الأراضي في الحجر الأسود جنوب دمشق.
توصيات في مجال السياسة العامة
يجب على واشنطن أن تسعى إلى استرضاء تركيا من دون أن تخسر موطئ قدمها في القسم الكردي في سوريا، حيث تحتاج إليه لمحاربة بقايا تنظيم «الدولة الإسلامية» وممارسة النفوذ ضد المكائد الإيرانية والروسية. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب أن تقنع «حزب الاتحاد الديمقراطي» بالانسحاب من منبج. وفي الوقت نفسه، عليها أن تعزّز وحدة القوات الأمريكية في المدينة لتكون بمثابة حاجز بين الخصمين، كما فعلت في آذار/مارس 2017 عندما نشرت عناصر من «فوج المشاة» الـ 75 للجيش من أجل مهمة “الطمأنة والردع”. كما يتعيّن عليها نقل الجنود إلى مناطق حدودية استراتيجية كدليل لتركيا بأنّها لن تسمح بحرب شاملة على طول الحدود. وأخيراً، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين النظر في تقديم معلومات استخباراتية نوعيّة معزّزة عن «حزب العمال الكردستاني»، من بينها معلومات عن مركزه العصبي في جبال قنديل في العراق.