مقالات

التصدي لـ “الفيلق الأجنبي” الإيراني

حنين غدار و فيليب سميث

“في 2 شباط/فبراير، خاطب فيليب سميث وحنين غدار منتدى سياسي في معهد واشنطن. وسميث هو زميل “سوريف” في المعهد وباحث في جامعة ميريلاند. وغدار هي صحفية وباحثة لبنانية مخضرمة وزميلة زائرة في زمالة “فريدمان” في المعهد. ورافق المنتدى نشر تقرير جديد لغدار بعنوان “«الفيلق الأجنبي» الإيراني: تأثير الميليشيات الشيعية على السياسة الخارجية الأمريكية”. وفيما يلي موجز المقرر لملاحظاتهما”.

حنين غدار

لم يعد التوازن السياسي موجوداً في لبنان. فالتكتّل المعروف بـ «14 آذار» تلاشى واضمحلّ، ولا يمكنه التنافس مع «حزب الله» لو ظلّ ناشطاً. فنفوذ «حزب الله» اليوم في لبنان أقوى من أي وقتٍ مضى، لاسيما وأنه يؤدي دور الذراع الرئيسي لإيران في سائر أرجاء المنطقة. وما نشهده اليوم في سوريا ليس عبارة عن ميليشيات شيعية متفرقة تقاتل بالنيابة عن نظام الأسد فحسب، بل هي أجزاء من جيش منظّم يخضع لقيادة «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، مع «حزب الله» يده اليمنى. وكان الحزب مستقلاً نوعاً ما قبل عام 2011، لكنه وُضع تحت السيطرة المباشرة لقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني بعد مقتل اثنين من كبار قياديي الحزب هما عماد مغنية ومصطفى بدر الدين. وتشكل أيضاً الميليشيا الأفغانية «لواء فاطميون» والميليشيا الباكستانية «لواء زينبيون» جزءاً من هذا الجيش.

وبعد إحكام إيران قبضتها على «حزب الله»، تمكّنت من زيادة سيطرتها على مؤسسات الدولة اللبنانية. ولم يكن الحزب جزءاً من الدولة سابقاً، أما اليوم فإن الخط الفاصل بينهما قد أصبح ضئيلاً جداً مع تغلغل «حزب الله» ووكلائه بشكل متزايد في الحكومة والمؤسسات الأخرى. وباختصار، يمكن القول إن «حزب الله» كان في الماضي دولةً ضمن الدولة اللبنانية، أما اليوم فقد أصبح لبنان دولةً ضمن دولة «حزب الله».

وقد استخدمت طهران «حزب الله» والميليشيات الأخرى أيضاً لبناء جسرٍ بري يربط أجزاء من العراق وسوريا ولبنان. ويخدم هذا الممر ثلاثة أغراض وهي: أولاً، توفير وسيلة قليلة التكلفة لنقل الأسلحة من إيران إلى حوض البحر المتوسط. ثانياً، فتح خط إمداد بديل في حال قيام إسرائيل بقصف المطارات خلال الحرب المقبلة مع «حزب الله» أو حلفائه. ثالثاً، ترسيخ الهوية الشيعية المقاتلة في المنطقة.

وفيما بتعلق بالنقطة الثالثة، يطلق بعض مقاتلي «حزب الله» تسمية «ولاية الإمام علي» على هذا الممر إجلالاً لهذه الشخصية الشيعية المكرّسة. وسيكون لهذا الجسر البري أهميةً استراتيجيةً أكبر بعد أن تعزز إيران نفوذها على الحكومات التي تسيطر على تلك الأراضي، بضمّها السياسيين الشيعة إلى حظيرتها وترسيخها وجود طائفي موحد.

وفي لبنان، يمكن للمرء أن يجد بالفعل مكاتب لمختلف الميليشيات الشيعية البارزة، ونحو خمسين محطة تلفزيونية وإذاعية مخصصة للجمهور الشيعي، تخضع جميعها لإدارة الميليشيات. وتفتقر المقاومة المحلية ضد «حزب الله» إلى التنظيم ولا تحظى بدعمٍ يُذكر نسبياً. وفي حين كانت معارضة الحزب مقبولةً في السابق طالما لم تلق آذاناً صاغية، إلا أن الاحتمال أصبح أكثر ترجيحاً حالياً بأن يعمل الحزب على جعل أي شخص ينتقده عبرةً للآخرين. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن يفوز «حزب الله» وحلفاؤه على غرار «حركة أمل» بنحو سبعين في المائة من الأصوات خلال الانتخابات العامة في أيار/مايو بفضل قانون الانتخابات الجديد. وعلى الرغم من قوته، لا يزال الحزب بحاجة إلى الفوز في الانتخابات لأنه لا يمكن أن يستمر في إسقاط الحكومة بالقوة.

أما في العراق، فقد منع آية الله العظمى علي السيستاني وشخصيات أخرى من النجف الشريف سيطرة إيران الكاملة على شيعة البلاد، لذلك تسيطر طهران على ما بإمكانها القيام به وتنتظر وفاة السيستاني لتحاول آنذاك دعم خلفه المحتمل. وقد يصبح العراق أكثر شبهاً بلبنان بعد الانتخابات النيابية المرتقبة في أيار/مايو.

إلا أن سوريا قصة أخرى. فهناك يتم نقل المقاتلين الشيعة وعائلاتهم إلى أجزاء من الجسر البري فيما يشبه المساعي الاستعمارية. فتعزيز التغيرات السكانية في بعض المناطق “المفيدة” من سوريا يندرج ضمن الاستراتيجية الإيرانية، على الرغم من أن ردود الفعل السنية على هذا النهج تبدو حتمية على المدى البعيد. ومن المرجح أن تصل الأمور إلى قيام مواجهة بين إيران وروسيا أيضاً، لأن نهج موسكو بالعمل داخل مؤسسات الدولة السورية غالباً ما يتعارض مع جهود طهران في المؤسسات الموازية.

أما من الناحية العسكرية، فلم يعد «حزب الله» كما كان في السابق. فقد كان التجنيد يستغرق سنوات طويلة، واليوم أصبح الحزب يجنّد أيّاً كان تقريباً فيشكّل بذلك قواتٍ أقل انضباطاً وأقل تركيزاً على عقيدة “المقاومة”، وأكثر انقياداً وراء نزعة الطائفية الشيعية. وثمة حالات أخرى ينضم فيها المقاتلون المتحدرون من عائلات فقيرة إلى التنظيم ليس لأسباب أخلاقية أو دينية، بل من أجل الرواتب فقط. بيد أن هذا الفيض من المقاتلين، مقروناً بالتغيرات الأخيرة في الميزانية، يمنع «حزب الله» من تقديم نفس حزمة الخدمات الاجتماعية لجماعته، حيث أصبح حالياً يميل إلى تفضيل مقاتليه وعائلاتهم عند توزيع المساعدات.

وهنا، يمكن للولايات المتحدة أن تتخذ عدة خطوات رداً على هذه التوجهات. فعلى المدى القريب، يمكن أن يؤدي دعم المرشحين المعادين لإيران ولـ «حزب الله» في انتخابات أيار/مايو إلى تحصّن الفاصل بين الدولة و«حزب الله». أما على المدى البعيد فمن الحكمة أن تضع واشنطن خطوطاً حمراء فيما يخص سوريا وتلتزم بها. فالدولة الوحيدة التي تنفذ هذه الخطوة حالياً هي إسرائيل.

فيليب سميث

يتعيّن على الولايات المتحدة إعادة النظر في شبكة الميليشيات التابعة لإيران. فعلى الرغم من اعتراض الكثيرين من العاملين في مجال الشؤون الخارجية، إلّا أنّه لا يمكن إنكار ترابط الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق ببعضها البعض. فإلى جانب «حزب الله»، تفضّل طهران فعلياً الجماعات المنشقة على التنظيمات الرسمية الكبيرة. ففي عام 2013، على سبيل المثال، انفصلت الميليشيا العراقية «حركة النجباء» عن تنظيم «عصائب أهل الحق» ولكن التنظيمَين يستمران في نشر مواد مماثلة في مجال العلاقات العامة، ويتّبعان نفس العقيدة الإيرانية، ويشاركان في المعارك ذاتها. وقد يكون لدى الجماعات التي تدعمها إيران تسميات مختلفة، إلّا أنّها تتقاضى أجرها من المصدر ذاته – وطهران نفسها غالباً ما تدعو المقاتلين إلى الانشقاق وتشكيل كتائب جديدة.

وفي الوقت نفسه، تركّز أساليب التجنيد حالياً على النواحي الطائفية أكثر من تلك الدينية. فقد تراجع عدد المؤمنين الحقيقيين في صفوف المقاتلين الشيعة، الأمر الذي له آثار تدريجية على المجتمعات المحلية. وعلى الرغم من أن المقاتلين القدامى لا يزالون يؤمنون بأن عليهم قيادة كل المسلمين، إلّا أن المقاتلين الأفتياء لا يتبعون بالضرورة فلسفة الخميني. وقد أدى غياب التدقيق العقائدي إلى إضعاف فعاليتهم بطريقة مماثلة لتلك التي حصلت بين القوات السوفيتية عندما اجتاحت أفغانستان. وفي نهاية المطاف، سيرد السنّة في المنطقة بأساليب أكثر راديكالية إذا ما اقتنعوا بأن جميع الشيعة هم عملاء لإيران. وتؤمن بعض التنظيمات الشيعية بأنها تقاتل من أجل “ولاية الفقيه”، بينما يكتفي بعضها الآخر بترداد هاتين الكلمتين من دون قناعة.

كما أن ظاهرة الميليشيات الشيعية بدأت تنتشر إلى مجالات غير متوقعة. فقد ظهرت منذ بضع سنوات في غزة جماعة تُعرف بـ «حركة الصابرين» تشكّلت من مقاتلين شيعة فلسطينيين وخططت لشن هجمات ضد إسرائيل. ومن المرجح أن تنفذ ضربات أخرى في المستقبل، لأن إيران تفضّل التنظيمات التي يمكن استخدامها عدة مرات على الخلايا التي يُستغنى عنها بعد استغلالها.

ومن ناحية المعدات والتكتيكات، لا يستخدم الكثير من هذه التنظيمات الآليات والأسلحة التقليدية إنما يستعين بطائرات استطلاع بدون طيار وغيرها من الأساليب المماثلة. ويمكن أن تشكل هذه الأدوات تهديدات جديدة وخطيرة على القوات الأمريكية.

فضلاً عن ذلك، يتعين على صانعي السياسات الأمريكيين أن يدركوا أن شبكة التحالفات الإقليمية الراهنة التابعة لإيران ليست دائمة – فالعلاقات تتغير في كل وقت، ومفهوم الحلفاء الدائمين هو مجرد وهم. إن فهم الأيديولوجية الإيرانية سيسمح لواشنطن بمواجهتها بشكل أكثر فعالية. فالعملاء الإيرانيون يجيدون العمل مع الأفراد والجماعات المنشقة في حين تميل السياسة الأمريكية إلى التفكير بطريقة ثنائية عند تحديد الحلفاء والخصوم. وفي المرحلة القادمة، يتعين على المسؤولين الأمريكيين أن يتعلموا كيفية استخدام الشبكات الدينية في المنطقة بشكل أفضل، كما عليهم الاستفادة من واقع كوْن إيران تبالغ في تقدير نفوذها في بعض المجالات وخاصة داخل الجيش العراقي.