مقالات

ازدهار على الورق فقط.. كيف التهم صندوق النقد الدولي الاقتصاد المغربيّ؟

 
عبد الله كمال
 
في تقريره الأخير عن المغرب، أشاد «صندوق النقد الدولي» بالسياسات الاقتصاديّة المغربيّة، وأعطى صورة متفائلة لمستقبله بصفة عامّة، كما دعاه إلى مواصلة مشاريعه الإصلاحيّة، مثل تعويم الدرهم، وإصلاحات صناديق الدعم والتقاعد، لكن تعاملات الحكومة المغربيّة مع المؤسسات الماليّة العالميّة كثيرًا ما تطرح تساؤلات حول طبيعة العلاقة بينهما، بين من يقول بأنّ هذه الإصلاحات ضروريّة لإنعاش الاقتصاد المغربيّ الذي يئنّ تحت وطأة الديون الخارجيّة والعجز الكبير الذي تشهده الميزانيّة، وبالتالي يضطرّ إلى اتّباع سياسة رفع الدعم عن الكثير من السلع والخدمات، وهو ما يوصي به صندوق النقد الدوليّ، وبين من يرى بأنّ هذه الإصلاحات عبارة عن إملاءات وشروط من قبل النقد الدوليّ، وفي حالة عدم تنفيذها، فإن هذه المؤسسات لن تتعامل مع الحكومة المغربيّة، وبالتالي ستجد الحكومة نفسها أمام عجز ماليّ، دون وجود مصدر خارجيّ للسيولة النقديّة.
 
ترجع علاقة المغرب وصندوق النقد الدولي إلى سنوات الخمسينات من القرن الماضي، حين قرّر الملك – آنذاك – محمّد الخامس إنشاء عملة مغربيّة منفصلة عن الفرنك الفرنسيّ المعمول به منذ الحرب العالميّة الأولى، وبما أنّ فرنسا كانت المساهم الرئيس في البنك المركزي المخزنيّ بالمغرب، فقد أغضبها هذا القرار؛ إذ إنّ المغرب قبل قرار الملك كان يستخدم عملة الفرنك المغربيّ المدعوم من قبل فرنسا، وفي إطار سعي الملك المغربيّ لتكريس استقلال البلد على الصعيد الماليّ والاقتصادي، والانعتاق من الوصاية الفرنسية، فقد أعلن عن إنشاء بنك المغرب في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1959، واعتماد الدرهم المغربيّ عُملة وطنيّة.
 
خطوة جريئة كهذه كانت تحتاج إلى دعم خارجيّ من القوى الكبرى، وقد وقف صندوق النقد الدوليّ إلى جانب المغرب، وأقرّ بأحقيّة انفصال المغرب عن الفرنك الفرنسيّ، واعتماده عملته الخاصّة، بالإضافة إلى ذلك فقد منح الصندوق غطاءً نقديًّا من الذهب بقيمة 25 مليون دولار؛ من أجل تغطية قيمة الدرهم، وقد تبع هذا الإجراء تخفيضَ قيمة الفرنك الفرنسيّ بنسبة 20% بإيعاز من الصندوق؛ ممّا أثار حُنقًا فرنسيًّا على الولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النقد الأمريكي.
 
في الثمانينات عاش المغرب عجزًا ماليًّا في الموازنة، ونقصًا فادحًا في العملة الأجنبية الذي يُرجعه بعض الخبراء إلى الهجرة الكثيفة للجالية اليهوديّة من المغرب، بالاضافة إلى مغادرة الكثير من الشركات والمصارف التجاريّة؛ بسبب موجة التأميم التي انتهجتها الحكومة المغربيّة في السبعينات، وبذلك بدأ شبح الافلاس يهدّد اقتصاد البلد؛ مما جعل المغرب يستنجد بصندوق النقد الدولي وإصلاحاته الهيكليّة، رغم شروطها المجحفة.
 
وبسبب ظروف الحرب الباردة بين الولايات المتّحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتيّ، دعم الأمريكيّون الاقتصاد المغربيّ – كما يشير وزير الخزانة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان – عن طريق صندوق النقد الدولي بعدّة قروض من أجل إنقاذ اقتصاده، بالإضافة إلى إعادة جدولة للديون، وذلك خشية وقوع منطقة شمال أفريقيا في أيدي الاتحاد السوفيتيّ.
 
وفي مقابل هذا الدعم، تشير تقارير صحافيّة إلى أنّ المغرب أجبر على تطبيق إصلاحات هيكليّة كانت هي الأولى في العالم العربيّ وأفريقيا، وقد كانت لها آثار كارثيّة على قطاعات كبيرة من المواطنين؛ إذ شملت خفض الإنفاق على الصحة والتعليم والمساعدات الاجتماعيّة؛ ممّا أدّى إلى موجات من الاحتجاجات، وزيادة نسبة الفقر وبروز أزمات اجتماعيّة كثيرة، كالنزوح الريفي، وانتشار البطالة.
 
بعد الأزمة الماليّة العالميّة في 2008، والظروف السياسيّة الصعبة التي رافقت الربيع العربي سنة 2011، ومع قدوم حكومة منتخبة جديدة بقيادة «حزب العدالة والتنمية»، عاد المغرب مرّة أخرى لصندوق النقد الدولي من أجل الاستدانة، هذه المرّة بشكل أكبر مما سبقه، وبشروط وإملاءات يرى كثيرون أنّها تأتي على حساب فئات واسعة من المواطنين، وترهن مستقبل الأجيال القادمة.
 
المغرب.. أكثر العرب استدانة
في سنة 2017 بلغت ديون المغرب الخارجيّة 33 مليار دولار، حوالي نصفها للبنك الدولي، ويعدّ الأكثر استدانة عربيًّا وأفريقيًا مقارنة بناتجه الداخلي الخام، وقد شهدت ديونه ارتفاعًا محسوسًا بعد الأزمة الاقتصادية العالميّة سنة 2008؛ إذ بقيت في منحى تصاعديّ حتى وصلت إلى أعلى نسبة لها ببلوغها 67% من الناتج العام، وهي نسبة خطيرة على اقتصاد البلد، كما يؤكّد الخبراء.
 
ديون المغرب منذ 1991 إلى 2011 – المصدر: cadtm.org
وتدافع الحكومة المغربيّة عن سياسة الاستدانة بمسوغ أنّه لا مناص منها؛ إذ يقول حزب العدالة والتنمية الذي ترأس الحكومة في 2012 بأنّ هذه السياسة الاقتصادية كانت مكرّسة قبل وصوله إلى السلطة، وبالتالي فهو يتعامل مع أمر واقع ومشاكل اقتصادية متجذّرة، وليس هو المتسبب فيها، كما أعلن رئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران بأنّ هذه الأزمة بدأت في الانفراج؛ إذ يعد حزب العدالة والتنمية بأنّ المديونيّة ستشهد منحى تنازليًّا مستقبلًا.
 
كما دافع وزير المالية في حكومة بن كيران «الوفا» عن هذه السياسة بقوله إنّ مؤشّرات الاقتصاد المغربيّ بدأ في التحسّن؛ فحتى تستطيع أّية دولة الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، فلابد أن يملك الصندوق «نظرة إيجابية» على اقتصاد البلد، وقد ذكر الوزير بأنّ المغرب حين طلب من الصندوق قرضًا بقيمة ملياري دولار، عرض الصندوق ضعف هذا على المغرب؛ كدليل على ثقته في الاقتصاد المغربيّ، وبينما تستخدم الحكومة هذا المُعطى للإشادة بإنجازاتها، يرى بعض المراقبين أنّ ثَناء هذه المؤسسات الماليّة العالمية على الحكومة يعدّ حُجّة عليها لا لها، ويرى هؤلاء المراقبون أنّ المغرب صار تلميذًا طيّعًا للمؤسّسات المقرضة من خلال التنازلات والخضوع لشروطها المجحفة بالنسبة لقطاعات شعبيّة واسعة، بالإضافة إلى رهن مصير الأجيال المستقبليّة.
 
صندوق المقاصة.. حلبة صراع بين صندوق النقد والفئات الهشّة
هل يُدرك أصحاب البزات الفخمة في مكاتبهم الفارهة الموجودة في واشنطن، بمقرّ صندوق النقد الدوليّ، احتياجات المواطن البسيط في الريف المغربيّ، وباقي المناطق النائية؟
 
في سنة 2012 طالب صندوق النقد الدولي الحكومة المغربيّة بإصلاح «صندوق المقاصّة»، وهو صندوق موجّه بشكل أساسيّ لدعم السلع الأساسيّة، كالمحروقات، والدقيق، والكهرباء، وباقي السلع واسعة الاستهلاك، في بلد يعيش أكثر من 8% من سكّانه تحت خطّر الفقر.
 
ويتّسم الصندوق بميزانيته الضخمة التي تُثقل كاهل الحكومة، وتجعل نسبة كبيرة من ميزانيتها تذهب إلى هذا الصندوق، دون أيّة عوائد مباشرة على الاقتصاد. رغم هذه الحقيقة التي يقرّ بها الكثيرون، إلاّ أن العديد من الحكومات في المغرب لم تمتلك الشجاعة السياسيّة لإجراء «إصلاحات» في هذا الصندوق الذي بقي مجرّدُ الحديث عن إجراء تغييرات فيه «خطًّا أحمر» خوفًا من الغضب الشعبيّ، وتراجع شعبيّتها؛ ممّا قد يعني انهزامها في انتخابات مُقبلة.
 
صندوق النقد الدولي، وكعادته في استهداف الإنفاق الحكوميّ المتعلّق بدعم السلع الأساسيّة، وباقي المساعدات الاجتماعيّة في أكثر من بلد، وضع صندوق المقاصّة نصب أعينه؛ فقد كان بالنسبة له تقليص حجم المساعدات التي يقدمها الهدف الأوّل في توصياته للحكومة المغربيّة، من خلال المطالبة تقليص ميزانيّته بأكبر نسبة ممكنة عن طريق إلغاء الدعم عن الكثير من السلع والخدمات.
 
وتشير الأرقام الحكوميّة إلى ارتفاع كبير في إنفاق «صندوق المقاصّة» خلال السنوات الماضية، فما بين سنة 2000 و2004 لم تتجاوز نفقات الصندوق 3-5 مليار درهم، أو ما يعادل 2% من موارد الميزانية العامّة، ليشهد إنفاق الصندوق ارتفاعًا كبيرًا من بين سنتيّ 2006 و2008 إثر زيادة أسعار البترول في تلك الفترة، وبالتالي اضطرّ الصندوق لتحمّل فرق الزيادة بدل الفئات المستفيدة، ليبدأ بعدها في الخروج عن السيطرة، خصوصًا بعد الأزمة الماليّة سنة 2008؛ إذ بلغ 32 مليار درهم، ويصل في سنة 2012 إلى أكثر من 56 مليار درهم.
 
باستخدام هذه الأرقام، تبرّر الحكومة المغربيّة ضرورة إصلاح الصندوق، وأنّ هذه الاصلاحات نابعة من العجز الشديد الذي يسبّبه للميزانيّة؛ كونه بلا عوائد، وأن لا علاقة لصندوق النقد الدولي بها، فقد كشف تقرير للمجلس الأعلى للحسابات بأنّ الأُسر الفقيرة – التي أُنشئ الصندوق خصّيصًًا لها – لا تستفيد بأكثر من 36% من قيمته، بينما يذهب الباقي إلى الفئات الميسورة.
 
«صندوق المقاصّة» كان ولازال حلبة لعدّة صراعات: من جهة بين الحكومة المغربيّة والمؤسسات الماليّة العالميّة كصندوق النقد الدولي الذي طالب في أكثر من مرّة بتطبيق إصلاحات عميقة في الصندوق، بل هدّد بوقف خطّ السيولة المفتوحة المقدّرة بـ6 مليارات دولار إن لم يتمّ التعجيل في إجراء إصلاحات تمسّ هذا الصندوق، ومن جهة أخرى حلبة صراع أخرى بين الحكومة والفئات الاجتماعيّة العريضة التي قد تؤثّر الاقتطاعات من الصندوق على مستواها المعيشي بشكل سلبيّ، وقد أشارت تقارير صحافيّة إلى أنّ صندوق النقد الدوليّ تدخّل من أجل خصم خمسة مليار درهم من قيمة الصندوق سنة 2013.
 
المقاصّة هي البداية فقط.. النقد الدولي يطلب إصلاحات في صندوق التقاعد
عندما وصلت حكومة بن كيران إلى السلطة في 2012 أعلنت عن عدّة ورشات إصلاحيّة، من بينها صندوق التقاعد الذي يشكّل أزمة بالنسبة لميزانيّة الدولة، وقد اضطرّت الحكومة بضغط من المقرضين الدوليين إلى زيادة سنّ التقاعد من 62 سنة إلى 65 سنة، لكن هذا الاجراء لم يمرّ مرور الكرام على الصعيد الشعبيّ؛ إذ أعلنت نقابات عماليّة رفضها هذا الإجراء، وخرجت عدّة تنظيمات نقابيّة في العاصمة المغربيّة الرباط في ديسمبر (كانون الأوّل) 2016 رافعين شعارات مناهضة لما أسموه «سياسات المؤسسات الماليّة العالميّة» في إشارة إلى توصيات البنك الدولي وصندوق النقد.
 
يقول محمّد الوفا، الوزير المنتدب المكلف بالشؤون العامة والحكامة: «إنّ خطّة إصلاح صندوق التقاعد كانت جاهزة في يد الحكومات السابقة، لكنها لم تكن تملك الشجاعة السياسيّ لاتخاذ القرار». وفي ردّه على إن كانت السياسات المنتهجة مؤخّرًًا بإملاء من المؤسسات الدوليّة العالميّة أجاب الوفا: «ألا توجد في الحكومة المغربيّة إطارات وكفاءات مكوّنة حتى تراعي مصلحة البلد كي ننتظر أشخاصًا جالسين في واشنطن (مقرّ صندوق النقد الدولي) حتى «يُفتي» لنا بما علينا فعله؟» يضيف الوفا: «صندوق النقد الدولي هو مؤسسة بنكية، والمغرب من بين المساهمين فيها، وقد وقّعنا معهم برنامجًا لغاية 2016، وقد وضعنا أمام البرلمان وأمام الرأي العام البرامج التي سيموّلها صندوق النقد، من طُرقات وغيرها».
يضيف «الوفا»: «لا توجد دولة لا تعيش بالقروض، حتى فرنسا لديها قروض بحجم 80% من ناتجها الداخلي».
 
ازدهار على الورق.. وانفجار في الشوارع
من بين الانتقادات التي كثيرًا ما توجّه للمؤسسات العالمية الكبرى، كالبنك الدولي، وصندوق النقد، هي أنّ المؤشرات الاقتصاديّة الإيجابية التي تمتلئ بها تقاريرهم لا تشعر بها فئات اجتماعية واسعة، ويمكن القول إنّ المغرب يمثّل حالة مثاليّة تجسّد هذا التناقض بين الأرقام المتفائلة على الورق والوضع الاجتماعيّ المتأزّم، ففي حين رسم صندوق النقد الدولي صورة «ورديّة» عن الاقتصاد المغربيّ، تتصاعد الاحتجاجات والمطالب الاجتماعيّة في الشارع؛ ممّا يعطى صورة «أقلّ ورديّة» من تلك التي ترسمها المؤسسات المالية العالميّة. فقد شهدت منطقة الريف بالحسمية في 2017 احتجاجات عارمة ضد تهميش المنطقة اقتصاديًّا ونقص الخدمات الاجتماعيّة، وتصاعدت الاحتجاجات لتصل حدّ الصدام مع قوّات الأمن واعتقالات في صفوف المحتجّين.
 
لكن الحادث الذي «عرّى» بشكل فادح هشاشة الوضع الاقتصادي لقطاع كبير من المجتمع المغربي، كان حادثة التدافع التي أدّت لمقتل 15 امرأة خلال عمليّة توزيع معونات خيريّة.
 
ولم تكد تخفت احتجاجات الريف المغربيّ لتنطلق في جهة أخرى في منطقة «جرادة» بعد وفاة أربعة عمّال في أحد المناجم؛ ممّا أشعل شرارة من الغضب عند السكان المحليين الذين طالبوا الحكومة بإيجاد حلول وبدائل وفرص عمل أكثر أمنًا، خصوصًا بعد إقفال الحكومة لمنجم الفحم المحليّ منذ 1998، ويعاني السكان المحليّون من انعدام فرص الشغل؛ مما يضطرّهم لاستغلال مناجم الفحم غير الآمنة بطريقة غير قانونيّة؛ ممّا يعرّض حياتهم وصحّتهم للخطر.
 
بسبب ديونه يجد المغرب نفسه مُحاصرًا بشروط المؤسسات الماليّة العالميّة، كصندوق النقد الدولي، الذي طالبه بإجراء إصلاحات في التعليم، وحذّره من موجة من الاحتجاجات، والبطالة في صفوف الشباب من جهة، في نفس الوقت الذي يروّج فيه البنك الدولي للسياسات التي من شأنها أن تشعل الشارع بالاحتجاجات والغضب الشعبيّ، فقد لمّح البنك الدولي إلى ضرورة إلغاء مجّانية التعليم والصحة، يبقى الاقتصاد المغربيّ رهينة لضغط هذه المؤسسات التي تصرّ على أنّه يسير في الطريق الصحيح، بينما احتجاجات الشارع لا تتوقّف.