مقالات

استرداد الفرصة الضائعة

 
 
جودة مرسي
 
تعرضت الأمة العربية لكثير من التقلبات والأزمات التي جعلت شعوبها تتأمل خيرا في جامعتهم العربية التي ينشدون الحل الأقرب منها بحكم عامل اللغة والعرق والدين والقرب الجغرافي. إلا أن طموحات الشعوب العربية دائما ما تفشل أمام بوابة جامعة الدول العربية، حيث تشهد السودان منذ ستة أشهر أحداثا متصاعدة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير التي تقود الحراك الذي أطاح بالرئيس السابق عمر البشير، ودخل الحراك الثوري بألوان طيفه السياسي باستثناء القليل في عصيان مدني يوم الأحد الماضي للمطالبة بتسليم السلطة للمدنيين، واعتراضا على مقتل نحو 100 شخص، في محاولة فك الاعتصامات الشعبية التي احتمت بالقيادة العامة لقوات الشعب المسلحة السودانية خلال الأيام الماضية، وفي ظل غياب دولي كامل أو تغييب متعمد عن رسم خريطة للخروج من أزمة الشارع السوداني أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن دبلوماسيا بارزا سيزور السودان لحث المجلس العسكري الانتقالي وقوى المعارضة على استئناف الحوار المتوقف، وأوضحت ـ في بيان لوسائل الإعلام نقلته رويترز ـ أن تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية، سوف “يدعو إلى وقف أي هجمات على المدنيين، وسوف يحث الجانبين على توفير بيئة تمكنهما من استئناف المحادثات”.
منذ ترك البشير لسدة الحكم وتولى المجلس العسكري قيادة السلطة في السودان، توارت الأدوار العربية التي تسعى للمِّ شمل الشعب السوداني وتوحيد لحمته الوطنية، وتدخلت بعض الدول العربية لتوجيه السودان صوب مسار يتوافق مع طموحاتها ورؤاها، ويلبي تطلعاتها أو يخدم نفوذها؛ وكانت التدخلات موجهة ومنحازة لطرف دون الآخر؛ لكن بالتأكيد هذه التدخلات لم تصل لخريطة طريق ولم تلقَ صدى في الشارع السوداني.
الحضور العربي الخافت دفع قوى إقليمية للتدخل وفرض نفسها مثل إثيوبيا التي بادر رئيس وزرائها أبي أحمد علي لتدخل السلمي بحثا عن فرص التوافق، ووصل الخرطوم يوم الجمعة الماضي في زيارة سريعة، وأجرى محادثات مع قادة المجلس العسكري الانتقالي وزعماء في قوى إعلان الحرية والتغيير، ويوم الاثنين أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين، قبول الوساطة الإثيوبية، ووضعت على مائدة أبي أحمد مطالبها بتشكيل لجنة تحقيق دولية في أحداث فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة والتي وقعت الأسبوع الماضي.
الخطوة الإثيوبية تركت صدى عالميا، فإعلان البيت الأبيض عن زيارة مبعوثه إلى الخرطوم، أشار أيضا إلى أن ناجي سيناقش أزمة السودان مع رئيس الوزراء الإثيوبي، وهو ما يوضح مسار حلول الإشكالية السودانية، وأن أطروحات الحلول التي ستقدمها القوى الدولية برعاية الولايات المتحدة الأميركية ستمر عبر الوساطة الإثيوبية، حيث تمثل إثيوبيا الاتحاد الإفريقي الذي قام بدوره بتجميد عضوية السودان حتى يسلم الحكم للمدنيين.
الملاحظ أن سرد الأزمة السودانية يخلو تماما من أي مبادرة عربية توافقية تخدم الطرفين، فالوقت الذي شهد تصريحات متباينة من دول عربية حول موقفها من السودان، غاب دور جامعة الدولة العربية نهائيا، سواء في إيفاد مبعوثين للخرطوم للقاء أطراف الأزمة أو في طرح مبادرة لمِّ شمل الشعب السوداني أو في تقديم ضمانات تسمح ببناء دولة جديدة على أسس ديمقراطية.
دور جامعة الدول العربية ليس بغريب أو جديد، فلا أحد يتذكر لها موقفا حاسما في الأزمات السابقة التي مرت بها البلدان العربية في موجة الربيع العربي مثل تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، بل وتركت الأوضاع لقوى الانصهار والتفاعل الداخلي وحسب المؤثرات الخارجية، ونفس الحال يتكرر مع الجزائر والسودان.
بصرف النظر عن أي توجهات أو أمنيات أو انتماءات؛ فإن إثيوبيا استطاعت فرض نفسها على الأحداث في السودان، وقدمت عاصمتها أديس بابا كلاعب إقليمي يمكنه حل النزاع الداخلي، وأنه يمكنها فلترة كل الحلول وكل المبادرات بما يتوافق مع أمنها الإقليمي ومع تطلعاتها للتكامل والتقارب مع السودان الجديد، وفي نفس الوقت عبرت للعالم عن مدى نفوذها الإقليمي، وأنها رقم لا يستهان به ولا يمكن تجاوزه أو تجاهله عند مناقشة القضايا والأزمات الإفريقية في نطاقها الإقليمي.
إذا كان الإرث الثقافي والتوارث الشعبي الإقليمي يمنح الشعب السوداني القبول بتدخلات إثيوبيا فإن الامتداد العرقي والعقائدي والجغرافي والثقافي والفطري يسمح بقبولهم للمبادرات العربية والتفاعل معها، بل وتقديم الأطراف المختلفة تنازلات ـ عن طيب خاطر ـ من أجل إنجاحها، وإذا كانت إثيوبيا لها السبق، فإن الوقت ما زال متاحا لطرح مبادرة عربية لحلحلة الخلافات بين الأطراف السودانية، فالفرصة الضائعة الأمور مواتية لاستردادها.