مقالات

الإصلاح المجتمعى الهادئ

يوسف عامر
 
جميعنا يهفو إلى العيش وسط مجتمع خالٍ من الأكدار، يتحلى أفراده بمحاسن الأخلاق، وينفع بعضهم بعضا، ويعلون من قيمة العلم، والانفتاح الحضارى والثقافي، ويؤمنون بأن اختلاف الناس فى الدين والفكر واللون والجنس والعرق هو سنة الله التى جُبل عليها الخلق، وأن الاختلاف لا يعنى بأى حالٍ من الأحوال التصادم والتناحر والفُرقة، ولكنه يجب أن يكون دائمًا جسرًا يعبر من خلاله الجميع إلى التلاقى تحت ظلال رابطة الأخوة الإنسانية .
 
ذلك لأن القانون الإلهى ينظر إلى الأفراد فى المجتمع الإنسانى على أساس رابطهم التكوينى فى الخلق وهو رابط الإنسانية. وهذا الرابط الإنسانى يجمع الأفراد فى شتى المناسبات. فالفرد، بقطع النظر عن نوعية ارتباطه الفكرى والعقائدى بالآخرين، يعيش بالدرجة الأولى ارتباطاً إنسانيا معهم.
 
ولا شك أن خلق أو إيجاد مجتمع مثالى كهذا الذى أشرنا إليه أصبح فى عصرنا الراهن أمر صعب المنال، إن لم يكن ضربًا من الخيال، والسبب فى هذا أن بنى البشر اتخذوا من الاختلاف وسيلة للتناحر ومحاولة إقصاء كل طرف للآخر، وغاب عن مفاهيمهم الفرق بين الاختلاف النافع، والإقصاء الضار .
 
وبنظرة سريعة لما آل إليه حال الناس مؤخرًا نجد أن الكثيرين أصبحوا يضعون نُصب أعينهم هدفًا واحدًا هو إضرام نيران الحرب الضروس بينهم وبين من يختلف معهم، وللأسف هؤلاء اتخذوا من قيمة الاختلاف مسوغًا للإفساد فى الأرض متذرعين بحجة أن ما يفعلونه يُجسد سنة الله فى الخلق، وأن كل معترض على أفعالهم التى تضر بغيرهم إنما هو معترض على الفطرة التى خلق الله عليها الناس، وهؤلاء غاب عن أذهانهم أن كره الخطأ أمر صائب، ولكن الأصوب ألا نكره المُخطئ، وكذلك بُغض المعصية فطرة سليمة بشرط أن نرحم العاصي؛ فمهمة المصلحين – فى أى مجال – ي أي فى هذه الحياة هى القضاء على المرض لا القضاء على المرضى .
 
وهنا تكمن أهمية خلق حالة من الوعى تُعيد النخبة والعامة إلى الطريق الصحيح؛ هذه الحالة مسئول عن خلقها المجتمع بأثره، وليست هى مسئولية أشخاص أو جهات معينة، وما نعنيه بحالة الوعى هنا أن نواجه أنفسنا أولًا بإستحالة خلق مجتمع مثالى فى كل مكوناته، فكما يوجد الأخيار يوجد – بنفس عددهم وعتادهم إن لم يكن أكثر – الأشرار، ووجود الشر وتغلبه أحيانًا على الخير لا يعنى أن نقبل بأن يسود المجتمع إنفلات أخلاقي، وتردى علمى وثقافي، وإسفاف فنى وغيرها من المظاهر والسلوكيات السيئة.
 
وطريقنا للتغلب على هذه المظاهر وتلك السلوكيات المستهجنة والعودة إلى مجتمع – نتفق أنه لن يكون مثاليًا – ولكنه هادئ الطباع ومُستحسن التكوين، يبدأ كما ذكرنا بخلق حالة من الوعي، نبث من خلالها داخل كل فرد فى المجتمع نزعة إيمانية بهذه القيم التى نريد تحقيقها، وتخلق فى النفوس حُب العمل والمسارعة إلى البدء فى استبدال السلوكيات الخاطئة بالحسنة، وترسخ داخل كل شخص مفهوم أن الاختلاف يعنى التلاقى وليس التباعد، وأن التقويم كما يعنى رفض الناس أن يسود القبح حياتهم، فإنه أيضًا لا يعطى لأحد منهم الحق فى التعدى على صانع القبح.
 
فليس معنى أن جارك يتخذ من حديقة منزله مكانًا يجمع فيه القمامة التى تؤذيك نفسيًا وصحيًا، ليس معنى أنه يصنع القبح الضار بالمحيطين حوله أن تعطى لنفسك الحق فى إحراق هذه الحديقة؛ لأن النار بالضرورة لن تقف عند النفايات بل ستتعدى هذا إلى إحراق منزل جارك ثم تصل إلى منزلك ، والأصح هنا أن تهتم أنت بزرع الورود والأشجار النافعة فى حديقة منزلك، وبهذا تكون رسمت لجارك – دون أن تؤذيه – الطريق الصحيح ، وأعدته إلى صوابه بطريقة صائبة هادئة تتقبلها كل نفسٍ سوية .
 
وربما ترون أن سبيلنا لإصلاح أى سلوك أو مظهر أو فكر خاطئ يكمن فيما ما نسميه « الإصلاح المجتمعى الهادئ »، الذى يمكننا من رؤية الخيط الدقيق الذى يفصل بين سنة الله التى جُبل عليها الناس، والتى تعنى اختلافهم فى الطبائع والأفكار والمعتقدات، وبين أن يتخذ البعض من هذه السنة الإلهية مسوغًا لوصم كل من اختلف معه بالتخلف أو الرجعية أو حتى الحياد عن الطريق الصحيح – الذى يراه هو صحيحًا بينما يراه غيره خاطئًا – ثم يعطى لنفسه الحق فى إصدار الأحكام والمجئ بالأفعال التى وإن كان الدافع إليها صحيحًا إلا أن طريقة تنفيذها خاطئًا .
 
يجب أن نُدرك أن ثمة خيط دقيق يفصل بين سنة الله التى جُبل عليها الناس، والتى اقتضت أن يتعايش الجميع – رغم اختلافهم – أخوة متحابين، يُعاون بعضهم بعضا فى إصلاح المجتمع، وأن يكون المجئ بالأفعال الصالحة هو السبيل الأوحد للأخذ بيد المسيئ، وإثناءه عن الإفساد فى حق من يعيشون معه فى مجتمع واحد؛ هذا الخيط الدقيق يتمثل فى أن الله خلقنا مختلفين فكرًا وجنسًا وعرقًا ولونًا وإعتقادًا، وجعل الجامع بين كل هذه الأجناس من الناس هو درء المفسدة وجلب المنفعة.
 
فاختلافك مع غيرك فى الدين أو الفكر أو الجنس – مثلًا – لا يعنى بأى حالٍ من الأحوال أن تمتنع عن نفعه، أو تسارع فى إلحاق الضرر به؛ الخيط الدقيق يعنى أنه يحق لك الاختلاف دون أن تنسى أو تغض الطرف عن حقيقة أن من تختلف معه هو أخيك فى الإنسانية، وأن الله كما خلقنا مختلفين، فإنه جعل أحبنا إليه أنفعنا لخلقه. عن ابن عمر رضى الله عنهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : “أحب الناس إلى الله أنفعهم…”