اخبار سياسية

الاتفاق الإيراني – السعودي… ليس انتصاراً لبكين بل استجابة لواشنطن

 الوسيط الصيني والمفاوض الاإراني يتبادلان نسختي اتفاق بكين (أ ف ب)

لم يكن صدفة ما وقع في 10 آذار (مارس) عندما اتفق الإيرانيون والسعوديون على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين في مدة أقصاها شهران. لكن نحن هنا نتحدث عن النتائج لا عن المقدمات التي سبقت هذا الإعلان وأدت إليه. فهناك متغيرات خارج إيران وداخلها تدفع إلى التحول في سياستها الخارجية والداخلية بشكل جبري وحتمي. لكن الإسراع أو الإبطاء في هذه العملية يتوقف على عوامل أخرى. 

إن تاريخ الإيرانيين الحضاري قائم على التضاد مع الحضارات المحيطة؛ وإن كان هذا الأمر من ناحية علم الاجتماع لا يختص بإيران وحدها؛ لكنه يتخذ بُعداً قومياً بالنسبة إليها، حتى عندما وجدوا أن لا مفر من الانتقال الى النظام الجمهوري بعد ثورة 1979، قاموا بأسلمة هذا النظام، في خطوة مضادة داخلياً للعلمانية الأصولية خلال العهد البهلوي. وخارجياً ضد العلمانية في تركيا والقومية العربية والتمدد الوهابي في جوارهم والشيوعية في شمالهم.  
المجتمع في وضع ثوري إن نظام ولاية الفقيه الذي يحكم إيران حالياً، والذي انتقل من الحركة إلى الثبات، يرفض مغادرة الثورة وفضائها السياسي والاجتماعي، وهذا يخالف قانون الطبيعة، لأن الثورة حركة، وهذا لا يمكن أن يستمر، لأن المجتمع يبحث عن الثبات والاستقرار.  
ومن ثمّ فإن عملية الإحياء المستمر للثورة التي يقوم بها النظام الإيراني هي على مستوى أنصاره، وهي أمر شكلي ومتخيل وغير حقيقي على أرض الواقع؛ لأنه يثور على مَن؟؛ فالفساد والمحسوبية وغياب العدالة وقهر النخبة السياسي والاجتماعي وكل ما عانى منه المجتمع قبل رحيل الشاه ما زالت قابعة على صدور الإيرانيين، ولكنها تبدلت في زي العمامة بدلاً من التاج. 
وهنا ظهر المتغير الداخلي؛ إذ وجد النظام الحاكم أن المجتمع الإيراني يعيش وضعاً ثورياً غير عنيف منذ سنوات، تبلور بشكل واضح مع اندلاع الحركة الخضراء عام 2009. وأن هذا الوضع قد ينقلب إلى حالة العنف، الذي ظهرت مؤشراته مع الاحتجاجات الشبابية (الجيل زد) في أيلول (سبتمبر) 2022، التي طالبت بالتغيير الكامل للنظام الحاكم؛ لأنه لا النظام الحالي ولا دستوره قادران على حل مشكلات إيران الداخلية قبل الخارجية.  
ويبدو أن هذا النظام يخشى من تراكم الكم وانتقاله إلى الكيف؛ ولذلك فإن أي تحرك يقوم به هو من أجل إبعاد شبح الثورة الحقيقية التي يمكن أن تطيح به. وهو ما يُفسر لماذا أبعد هذا النظام الشرطة عن مرافقة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولماذا يتجاهل حالياً الإيرانيات اللاتي يمشين في الشوارع من دون الالتزام بالحجاب.   وكذلك، بعد أن سيطر المحافظون على السلطة التنفيذية والتشريعية في إيران؛ أدركوا أن البلاد لا يمكن أن تدار بالشعارات والعداء المستمر مع الخارج. وأدركوا أيضاً من خلال الاحتجاجات الأخيرة وتنظيمها، مدى قوة تأثير المعارضة في الخارج، ومدى نفوذ أجهزة الاستخبارات الأجنبية داخل بلادهم. ولذلك وجدنا المتحدث باسم الحكومة، علي بهادري جهرمي، (14 آذار /مارس) يبرر التراجع عن السياسة العدائية تجاه السعودية بأنه تصحيح لخطأ استراتيجي في سياسة إيران الخارجية. ويشير إلى وجود جناح متشدد داخل النظام الحاكم يرفض هذا التقارب.  
والحقيقة أنه لا يمكن الفصل بشكل واضح بين الحمائم والصقور في النظام الإيراني؛ لأن النظام يحمل كلا الوجهين، ويُظهر أحدهما متى اقتضت الحاجة، إذ نجد المتشددين في البرلمان ورغم الوضع الثوري الذي يعيشه المجتمع، وتحت أعين النظام، يناقشون الاستفادة من التقنيات الحديثة ومنها الكاميرات الذكية في مراقبة غير الملتزمات بالحجاب ومعاقبتهن من خلال تعطيل عمل خطوط الهاتف أو الإنترنت. وذلك من أجل تلافي الاحتكاك الجسدي الذي قد يثير سخط المعارضين ويتم استغلاله في تحريك الشارع ضد النظام.  متغيرات المحيط الخارجي بينما كانت الأولوية لوزير الخارجية الإيراني حسين عبداللهيان أن يعلن هو استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، تم تبرير تولي مسؤول الأمن القومي، علي شمخاني هذا الملف، بأن الخلافات الأساسية بين طهران والرياض تتعلق بالمسائل الأمنية، أو لأن شمخاني يجيد التحدث بالعربية. لكن جلوسه بصفته ممثل المرشد الأعلى يُعبر عن فقدان الثقة في أي اتفاق يتم مع الحكومة التنفيذية.  
وهذا يدل الى أن دول الجوار، لا سيما في الخليج، قد تجاوزت إيران الشاه وإيران الثورة وما تسعى إليه هو علاقة مستقرة ومثمرة مع هذا البلد المتقلب في علاقاته. ولذلك رغبت في أن يكون اتفاقها مع المرشد الأعلى مباشرة، بصفته يمثل رأس هرم السلطة في إيران.  
وهنا يجب القول إن إيران تواجه متغيرات في محيطها الخارجي؛ لا بد من أن تنعكس على داخلها وعلى سياستها الخارجية، إذ انطفأت القومية العربية وانخلعَ ثوب الوهابية ورحلت الشيوعية، بل حتى ثورات الربيع العربي التي راهنت على أسلمتها باسم الصحوة الإسلامية، قد فشلت. وبذلك أصبح الخطاب الإيراني المعادي غير مبرر اليوم. لدرجة أن الداخل الإيراني بدأ يشعر بالفجوة بين حالهم وحال محيطهم؛ فبينما يصرخ رجل الدين الإيراني على المنبر ويحذر من الوهابية؛ يجد المواطن الإيراني أن المرأة السعودية تتمتع الآن بحريات لا تتوافر لدى نظيرتها الإيرانية!. 
لقد وجد النظام الإيراني الذي ظن أنه وحده مَن يقوم برسم خريطة المصالح الاقتصادية في محيطه، أن هناك خريطة كبيرة من التفاعلات والتجاذبات لا يمكن أن يتعامل معها في ظل العزلة التي يعيشها، بسبب سياسته التقليدية التي ينتهجها، بخاصة أن هذا النظام حريص على إيجاد موطئ قدم فاعل لإيران على خريطة تشكّل العالم الجديد. ولذلك أعلنت حكومة إبراهيم رئيسي منذ مجيئها عن سياسات “الأولوية لدول الجوار” و”الدبلوماسية الاقتصادية”؛ لكن هذا لم يتحقق بسبب حاجة النظام الى تغيير سياسته الخارجية أولاً. فضلاً عن أن دخول إسرائيل في المعادلة الأمنية الإقليمية دفع الإيرانيين الى التفكير كثيراً في سياستهم الخارجية التي أتت بإسرائيل إلى حدودهم الشمالية والجنوبية. 
دعاية من التبريرات  لدى النظام الإيراني القدرة على الانتقال والتحول مع وضع التبريرات المقنعة لذلك أمام شعبه، إذ نجد وسائل إعلام الجناح المحافظ و”الحرس الثوري” والمؤسسات الرسمية قد أطلقت موجة واسعة من الدعاية حول الاتفاق مع السعودية، على أنه تغيير في نهج السعودية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل. فنجد وسائل إعلام إيرانية تأتي بتصريحات رئيس الاستخبارات السعودي السابق، تركي الفيصل، وقوله: “لا يمكن للولايات المتحدة ولا أوروبا أن يكونا وسيطين نزيهين بين السعودية وإيران… الصين هي التي يمكن أن تنجح لأنها تقيم علاقات جيدة مع البلدين”. وتدلل بهذه التصريحات الى أن السعودية يائسة من السياسة الأميركية. بل استخدمت وكالة أنباء “تسنيم” التابعة لـ”لحرس الثوري” عبارة: “صفعة الرياض القاسية لواشنطن”. وكتبت صحيفة “كيهان” المقربة من معسكر المرشد الأعلى: “الاتفاق الإيراني السعودي ضربة لأميركا والنظام الصهيوني”. 
 لقد حاولت وسائل الإعلام الموالية للنظام تصوير الاتفاق على أنه إنجاز كبير وتنازل من جانب السعوديين؛ وذلك لتفادي الإجابة عن سؤال كبير عن سبب الهجوم على السفارة السعودية عام 2016، ولماذا إذاً كانت كل هذه المواجهات مع السعودية، ومن هو المسؤول عن خسائر كل هذه السنوات من أضرار سياسية واقتصادية؟.  
بل حتى الإصلاحيون أنفسهم، كما جاء في صحيفة “آرمان ملي”، في 16 آذار (مارس)،  سمّوا ما حدث بأن النظام بدأ ينتبه إلى “دبلوماسية التسامح” التي تعتمد على أخلاقيات الدبلوماسية الدولية من أجل التعايش وتجنب خسائر العنف والصراعات الدولية. وهو ما سبقته فيه دول الخليج بتقاربها مع قطر وتركيا وسوريا. 
نتيجة بعد مقدمات حقيقة الأمر أن الاتفاق مع السعودية لم يكن صدفة، فقد جاء بعد جولات من الحوار بين الطرفين باستضافة بغداد. وأيضاً دخول الصين على خط المصالحة لم يكن من دون ضوء أخضر من الولايات المتحدة الأميركية، بخاصة أن لديها علاقات جيدة مع كلتا ضفتي الخليج، وهذا الأمر مهم لواشنطن التي تسعى الى احتواء إيران والتوصل معها الى اتفاق يضمن لها كبح النووي الإيراني وطمأنة الحلفاء في الخليج وإسرائيل وضمان الاستقرار في الشرق الأوسط. وبذلك كانت مشاركة الرئيس الصيني، شي جينبينع، في القمة الصينية – السعودية – العربية، في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2022، في إطار التحضير لدور صيني في المنطقة.  
 كذلك، فإن هذا الاتفاق يأتي بعد ضغوط اقتصادية قاسية مارستها الولايات المتحدة بأن أغلقت على إيران كل النوافذ التي يمكن من خلالها التنفس خارج حصار العقوبات الغربية. الأمر الذي هدد النظام الإيراني بمواجهة موجة جديدة من الاحتجاجات. لكن هذا الأمر كان في مصلحته أيضاً من أجل إقناعه بالعودة الى طاولة التفاوض النووية وتفادي التعرض لضربة عسكرية إسرائيلية. 
وبناء على ذلك، لم يكن اتفاق المصالحة هذا صدفة، لأنه يأتي استجابة لمطالب أميركية بعد أن بعثت واشنطن برسالة إلى طهران في بريد وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، الذي بمجرد أن عاد من واشنطن، التقى نظيره الإيراني في بداية آذار (مارس). وقد حملت هذه الرسالة ستة بنود تضمن عودة واشنطن الى طاولة المفاوضات النووية، إذا التزمت طهران بمسودة اتفاق آذار  2022 في فيينا. وكذلك إذا التزمت استئناف الحوار مع دول الخليج، وتبادل السجناء مع واشنطن، والتفاوض حول الخلافات غير النووية، وخفض التعاون العسكري مع روسيا والصين.  
وعملياً، بعد هذه الرسالة استقبلت طهران مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، ودعت الى ترسيم الحدود مع الكويت واتفقت على استئناف العلاقات مع السعودية ودعت الى الحوار مع البحرين والأردن ومصر وأعلنت دعمها الحل في اليمن وعن وجود خطة لتبادل السجناء مع واشنطن. 
 وإن كان هناك شيء من الصحة في البروباغندا الإيرانية، فهو الذي يتعلق بمسألة النظام العالمي الجديد؛ لأن قبول طهران بالاتفاق مع الرياض يأتي في خدمة مصالحها من وراء إيجاد نظام عالمي متعدد الأقطاب، تسعى الى أن تصبح طرفاً فاعلاً فيه. ومن أجل تحقيق هذا الدور الذي يمضي على مسارات الطاقة والممرات التجارية والتحالفات الاقتصادية مثل شنغهاي وبريكس؛ فإن ذلك لا يمكن تحقيقه من دون كسر عزلتها مع الضفة العربية من الخليج. ومن هنا ظهرت الحاجة الى المصالحة مع السعودية والتوقف عن السياسة غير المربحة لمصالح إيران الاقتصادية.