مقالات

التطبيع في زمن المقاومات…

 
بقلم : حنان سلامة
 
في ظلّ الانقسام الواضح والجلي بين مؤيد للاعتراف بالعدو اليهودي كياناً صهيونياً بحكم التسليم بسنن الضعفاء على أرض فلسطين المغتصبة، وبين بندقية مقاومة مناضلة لطالما زغرد رصاصها من أقصى منابر السياسة إلى دفء زنادها بين أصابع شهيد قضى من أجل عدم الاعتراف وعدم التطبيع الكامل. التطبيع المرفوض تحت أيّ عنوان، سواء كان تطبيعاً سياسياً حكومياً، أو تطبيعاً شعبياً، أو تطبيعاً يشمل علاقات تجاريةً وما شابه.
 
إنّ بعض الدول العربية اللاهثة نحو عملية التطبيع مع العدو «الإسرائيلي»، تحاول أن تقيمه على أساس السلم العالمي بحجة أنها راعية ومحبة للسلام، كي تحافظ هذه الدول على وجودها الهش، وتتلطّى خلف آخر ورقة تين أو بصل أو قناع بلاستيكي – لا فرق – حتى تدفن استسلامها قبالته، وتستلّ سيف الفساد لتحارب به شعوبها الحية، وهي التي غرقت به وتبلّلت حتى مطلع الفساد وآخره، وما الملكيات العائلية التي تكدّس ثرواث شعوبها المنهوبة في بنوك جلاديها في الغرب إلا خندق مليء بالعمالة والتطبيع والسفالة الكاملة.
 
التطبيع الذي تطمح لإحقاقه بعض الدول العربية، لا يدلك سوى إلى شيء واحد في زمن «الترف النضالي»، ولا يشكل بالدرجة الأولى إلا براءة كاملة لعدوّنا، وشطباً لكلّ التاريخ الإجرامي لهذا الكيان اليهودي الذي مارس سياسة المجازر على أيدي عصاباته الآتية من شتات الأرض، والتي بدأت ويلاتها مع «البالماخ» و «الهاغاناه» و»شتيرن» التي مارست أبشع وسائل القتل الجماعي والتهجير الممنهج الذي كشفت الأيام أنه كان مدعوماً من الدول التي تسعى الآن إلى التطبيع، وسعت إلى بثّ رعبها النفسي والتقسيمي، وقتل لغة العقل الحيّ الفاعل، وإحلال سلوكيات «الإسلام السياسي» العاهر داعش – بديلاً عنه. إنّ داعش هي لغة تلمودية وبنت الصهونية المدللة وفعلها وسلوكها وذراعها ووجهها الحقيقي في أمتنا السورية.
 
إنّ التطبيع مع «إسرائيل» هو شكلٌ حيوي من أشكال الاعتراف بوجود هذا الكيان سواء كان تطبيعاً حكومياً سياسياً، كالتطبيع الحاصل في مصر التي مسحت بهذا العار دماء شهدائها الذين سطروا البطولات في حرب 1973، وتناست صور الأسرى عندما كانت دبابات العدو اليهودي تسحقهم أحياء. وبما أنّ الدولة في مصر من حكم السادات الى حكم السيسي ما زالت في خانة الأسر السياسي والعسكري، ضمن هذا التطبيع وهذه الاتفاقية التي عُرفت باتفاقية «كامب ديفيد»، إلا أنّ الشعب المصري ما زال يرفض التطبيع الشعبي بينه وبين اليهود على جميع الأصعدة. إنّ الخلاص من هذا الإذلال هو أن تستعيد مصر قوّتها وعافيتها كدولة قوية في مجتمعها وفي دورها الإقليمي.
 
لم يعُد مشروع التطبيع مع العدو الإسرائيلي عملاً معيباً أو أمراً سيئاً في نظر قطار المروّجين له. فالأردن من أوائل الذين تهافتوا لإقامته في إطار الدور المرسوم له من ضمن اتفاقية عرفت باتفاقية «وادي عربة» عام 1994 والتي وُقعت بين الملك حسين ورئيس وزراء الكيان الصهيوني اسحاق رابين. لقد كان هذا التطبيع أيضاً تطبيعاً منفرداً سياسياً حكومياً، مرفوضاً من الشعب في الأردن، وأكبر مثال على ذلك ما فعله الجندي الأردني البطل أحمد الدقامسة عام 2009 عندما أطلق النار وقتل سبع «إسرائيليات»، وحكم عليه من قبل النظام الأردني بالسجن المؤبد، لكنه خرج بعد سبعة أعوام بموجب تبادل الأسرى والسجناء.
 
إنّ الأمثلة كثيرة إذا أردنا أن نضربها كأدلة جازمة على نيات البعض في التطبيع العملي مع اليهود، منها السعودية وقطر والبحرين والإمارات وجنوب السودان على سبيل المثال لا الحصر. بالإضافة طبعاً إلى الاعتراف بوجود العدو الإسرائيلي من قبل السلطة الفلسطينية التي تسعى من أجل توثيق وإرساء هذا التطبيع كبداية للاعتراف الكامل المرفوض من المقاومة الشعبية الفلسطينية.
 
لقد حاول البعض في لبنان عام 1983 إدراج لبنان في لائحة المعترفين بالدولة السرطانية «إسرائيل» من خلال اتفاق عُرف باتفاق 17 أيار، والذي كان يهدف إلى جعل لبنان حلماً راكباً محققاً داخل قطار التطبيع من ضمن خطى الأحلام الإسرائيلية تحقيقاً لبوتقة «إسرائيل الكبرى». لكن المقاومة الوطنية اللبنانية قالت كلمتها في بيروت مع خالد علوان، وفي إسقاط أمن الجليل مع البطلين فيصل الحلبي وسمير خفاجة. الحالة النضالية في وجه الهيمنة الإسرائيلية نجحت، وأسقطت حكومة التطبيع ورؤوسها المشغلين والمروّجين والمتعاطين.
 
إنّ الأطماع الإسرائيلية ما زالت ترمق بنظرها لبنان في كلّ حين، وهي تنتظر كلّ فرصة للانقضاض عليه ونهب مقدراته. وهذا ما خرج على لسان وزير حرب العدو ليبرمان متحدثاً عن «البلوك 9» النفطي في البحر الأبيض المتوسط الذي تمّ التنقيب عنه من قبل شركة «نوبل للطاقة» والذي يحوي كميةً هائلةً من النفط، وتبلغ مساحته 83 ألف كيلو متر مربع بالقرب من منطقة المياه الإقليمية لكلّ من لبنان وقبرص وفلسطين المحتلة. ويبلغ مجمل مساحة المياه الإقليمية اللبنانية حوالي 22,000 كم مربع فيما تبلغ المساحة المتنازع عليها 854 كم مربعاً، وقد تمّ تقسيم المساحات المتنازع عليها الى عشرة بلوكات يمثل البلوك 9 إحداها. وتقدّر حصة لبنان من الغاز الطبيعي الذي يحتضنه هذا الجزء من البحر المتوسط بحوالي 96 تريليون قدم مكعبة، وهي ثروة يمكن أن تساعد لبنان على خفض حجم الدين العام الذي احتلّ أعلى معدل للدين العام في العالم قياساً إلى حجم اقتصاده وتعداد سكانه ومعدل دخل أفراده.
 
إنّ العدو اليهودي منذ أن أوجدته قوى الاستكبار والهيمنة في العالم وزرعته على أرضنا، يطمح دوماً إلى احتلال العقول والنفوس والسيطرة على مناهجنا الدراسية وتغيير حيثية واقعنا وتشتيت تاريخنا وحضارتنا وقيمنا. يتأتى الاستكبار من خلال لغة القوة التي يخاطب بها الحكومات التي ترى من كياناتنا القطرية شركات خاصة لها، ملحقة، ذليلة، خائبة، خانعة، لا قوة لها إلا بمدبّر الأحوال والأهوال! تذعن السلطات الكيانية كي تحافظ على كينونة بقائها فتدخل في اتفاقات تحت شعار إحقاق السلام والتنمية ومصالح شعوبها الاستهلاكية في كلّ مفهوم وميدان، كي تبدأ رحلة الاعتراف الكامل والتطبيع الكامل حكومةً وشعباً رغم الاحتلالات المتنامية.
 
انطلاقاً من مقدمات ما نؤمن به من نهج قومي اجتماعي، سياسي، وجهادي، ومن أول نقطة دم نزفت من جرح شهيد لنا حتى آخر نقطة دم تزنّر بالحسنى ياسمين الشام، سنبقى مقاومين لليهود، مؤمنين بأنّ وقفة العزّ التي نقفها ستحرز النصر، وأن لا مفرّ منه، وأنّ عنادنا مؤيد بصحة عقيدة الأحياء التي تقول إن ليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقنا سوى اليهود. لا حياد في المواجهة، لا استسلام، لا مهادنة، لا صلح، لا اعتراف. المقاومة وحدها خيار الحرية والأحرار. المقاومة وحدها تحمي الديار. المقاومة المؤمنة بصحة العقيدة تحيا ونحياها حتى أبداً يموت الموت ويحلو الانتصار.