مقالات

“الجمهورية الإمبريالية الإيرانية” والسياسة الأميركية (3)

لوبي الاتفاق النووي تحرك ضد ترمب حتى قبل الانتخابات في محاولة لمنعه من الوصول إلى البيت الأبيض

وليد فارس  الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية 

خروج ترمب من البيت الأبيض من دون الاعتراف “بالشرعية الانتخابية” لبايدن أثّر على الملفات الداخلية وتدريجاً على السياسة الخارجية (رويترز)

في هذه الحلقة استعرض ما جاء في كتاب “إيران الجمهورية الإمبريالية والسياسة الأميركية” حول نهاية سياسة دونالد ترمب التواجهية مع إيران، وتمكن اللوبي الإيراني من إعادة توجيه سياسة جو بايدن الإيرانية مجدداً باتجاه أجندة إدارة باراك أوباما، واصطدام السياسة الجديدة بوقائع غير محسوبة وغير منتظرة أدت إلى المأزق الحالي في الشرق الأوسط.

اللوبي ونهاية إدارة ترمب

لقد شرحت بوضوح في الكتاب أن تغيير السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط بين إدارتي جورج بوش وأوباما أخذ وقتاً طويلاً وتعمقت هذه السياسة في البيروقراطيات إلى حد أن سياسة “الشراكة” مع إيران و”الإخوان” التي نفذتها إدارة أوباما لـ 8 سنوات باتت “السياسة العميقة” للدولة، وباتت أيضاً مدعومة من تجمع المصالح المالية التي ارتبطت بالاتفاق. وتشير التقييمات (assessments) إلى أن لوبي الاتفاق قد تحرك ضد المرشح ترمب حتى قبل الانتخابات في محاولة لمنعه من الوصول إلى البيت الأبيض، بعد أن أعلن مراراً بأنه سوف يسقط الاتفاق. وبالتالي تحركت كتلة الضغط ولا سيما عبر الإعلام لتشويه صورة ترمب واتهامه بإضعاف الأمن القومي، خصوصاً عبر “الملف الروسي”. أما وقد وصل ترمب إلى البيت الأبيض، انتقل اللوبي لدعم المعارضة التي ضمت بيروقراطيات أوباما من داخل الدولة بالإضافة إلى الإعلام والأكاديميين، وكان الرئيس السابق أوباما الموجه الفعلي للمعارضة. 

وقد نسقت هذه الأخيرة قدراتها وأعمالها وركزت على إضعاف إدارة ترمب وصولاً إلى عدة محاولات لإقصائه عبر جلسات العزل. فكان ذلك سباقاً بين المعارضة ومعها اللوبي لإسقاط الإدارة ومنعها من الانسحاب من الاتفاق وتغييرالسياسة السابقة، وفريق ترمب المستعجل لتقطيع أوصال مشاريع التعامل مع النظام الإيراني، فبات الصراع الداخلي الأميركي انعكاساً لصراع بين “كارتيل الاتفاق” وترمب حول “كنز الاتفاق”. فإذا قطع هذا الأخير شريان الصفقة بانسحابه، خسر النظام مداخيل هائلة وخسرت الشركات المهرولة باتجاه العقود أرباحاً طائلة. وإذا تمكنت المعارضة من عزله لكانت منعته من تسديد ضربة كبرى للمستفيدين من الصفقة. 

وقد وصلتُ في كتابي إلى استنتاج أن جزءاً من المعركة الداخلية في عهد ترمب كان يدور حول ما وصفته بأنه “صفقة وراء الصفقة”، أي المصالح التي كانت تستفيد من الصفقة، غير النظام. وقد دهسها ترمب بنية أو بدون نية. فانفجر غضب لوبي الصفقة، وجهز طاقاته ضد الرئيس حتى إسقاطه. وبينت ملامح تدخل اللوبي في المواجهة الداخلية، بما فيها انتفاضات صيف 2020 وأزمة الانتخابات في الخريف، وصولاً إلى حادث 6 يناير (كانون الثاني). إذ أن بعض المراقبين ذكروا ظاهرتين تشيران إلى تدخل “قوة خارجية” في السياسات الداخلية: الأولى تم رصدها بسبب المبالغ الهائلة التي صرفت في معركة مواجهة ترمب، حيث أنها فاقت بكثير مستوى الميزانيات السابقة، وتطرح الأسئلة عن مصدرها. 

أما الظاهرة الثانية فكانت تتعلق بالشركات التي دعمت الحملات ضد الرئيس ترمب وقتها، وتبين بعد ذلك أنها دعمت التنظيمات التي قادت الاحتجاجات ضده في صيف 2020، وبعد خروجه من البيت الأبيض “عاقبت” النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الذين اعترضوا على شرعية بعض الانتخابات في ولايات معينة، إذ أن رابطاً يدعو للانتباه يربط معظم وربما كل هذه الكيانات التجارية وهي أنها كانت صاحبة مشاريع استثمار واستفادة من الاتفاق النووي! فهل هذا يعني أن لوبي الصفقة قد جنّد جيشاً سرياً من المصالح المرتبطة بالتجارة مع إيران، وأقحمها في هجوم مالي لإسقاط من أسقط الاتفاق، أي ترمب؟ هل يمكننا جزم ذلك؟ المؤشرات موجودة بقوة، ولكن حسم الموضوع، كما اقترحتُ في الكتاب، هو فتح تحقيقات من قبل الكونغرس لمعرفة نسبة تدخل شركاء إيران الغربيين والأميركيين في إقصاء الرئيس الذي سحب البساط من تحت أقدامهم. هكذا ملف قد يفجر أكبر أزمة ثقة في المؤسسات الدستورية والسياسية إذا ثبت أن النظام الإيراني موّل اللوبي التابع له من سيولة الاتفاق النووي وتم إقحام مصالح أميركية مالية في مواجهة سياسية داخلية لمصلحة دولة معادية. هذا ما قد يبحث به الكونغرس الجديد، إذا توفرت الظروف. 

إيران والانتقال بين الإدارتين

مع خروج ترمب من البيت الأبيض من دون الاعتراف “بالشرعية الانتخابية” لبايدن بسبب الخلافات على النتائج، دخلت البلاد في انقسام سياسي عميق أثّر على الملفات الداخلية وتدريجاً على السياسة الخارجية. فالعلاقات الدولية، بما فيها الملف الإيراني، انتقلت إلى البيت الأبيض الجديد. ففي خلال الحملة الانتخابية أكد مستشارو بايدن أن سياسته الشرق أوسطية لن تكون امتداداً لسياسة أوباما، بعكس ما أكدت عليه في كتابي السابق الذي صدر في سبتمبر (أيلول) 2020 بعنوان “الخيار” The Choice، حيث كتبتُ أنه مع الوقت سنرى عودة تدريجية لسياسة أوباما ومحاولات للعودة إلى التوقيع. 

وبالفعل، ما إن دخل فريق بايدن البيت الأبيض حتى عادت “السياسة الأوبامية” بسرعة في ما يختص بإيران وحلفائها، إذ تم رفع جماعة الحوثي عن لائحة الإرهاب خلال شهر واحد. وتتالت القرارات الأخرى مشيرة إلى عودة التطبيع مع طهران. وبعد بضعة أشهر عادت الوفود الأميركية إلى طاولة المفاوضات مع إيران، فصحت تنبؤاتي في هذا الإطار، وسعيت في كتابي أن أشرح لماذا تأخر بايدن عن التوقيع، ومن بين الأسباب، القرار بتمرير الانسحاب من أفغانستان قبل العودة إلى الصفقة مع الجمهورية الإسلامية تحت ضغوطات “الإخوان” والمصالح المرتبطة “بأفغانستان الجديدة”. فضاعت 9 أشهر. فرفعت طهران سقف شروطها مما أطال أمد المفاوضات. وعشية الخروج بوثيقة اجتاحت روسيا أوكرانيا فاختلط الحابل بالنابل لأشهر عديدة. وجاءت “الثورة النسائية” وبعدها الشعبية في إيران لتخفف الاندفاع نحو إعادة التوقيع. 

صدر الكتاب في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) واستمرت المعادلة الأميركية الإيرانية على ما هي عليه، أي استمرار فريق بايدن المفاوض بموقفه في السعي لإتمام الصفقة رغم انتقادات إدارته للقمع داخل البلاد. ولكن من ناحية أخرى تعاند الثورة الشعبية النظام فيشكل ذلك ضغطاً إعلامياً على البيت الأبيض. إلا أن التطور الجديد الذي حصل قبل إرسال المخطوطات النهائية للطباعة كان انتصار الجمهوريين في انتخابات مجلس النواب، مما سيخلط الأوراق من جديد في واشنطن. لذا أضفتُ فصلاً صغيراً عن الاحتمالات القائمة للعامين القادمين. وهو ما سألخصه في الحلقة القادمة.