اقتصادي

الجوع والاحترار يتحالفان ضدّ البشر

طفل يطلب جانبا من المساعدات الغذائية في غزة

أطلقت الوكالات الدولية العام الماضي ناقوس الخطر مراراً بشأن الزيادات الحادة في انعدام الأمن الغذائي التي أدت إلى سقوط ملايين الأشخاص في براثن الجوع الشديد وسوء التغذية والتهديدات المرتبطة بصحتهم عامة وصفها برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة بأنها “أزمة جوع ذات أبعاد غير مسبوقة”.

وكان هذا الاتجاه المقلق تفاقن بسبب جائحة كوفيد-19 والصدمات المناخية والصراعات، بما في ذلك الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا والأزمة في الشرق الأوسط والحرب على غزة.

ووفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لعام 2023 حول الأمن الغذائي والتغذية العالمية الذي صدر في تموز (يوليو) الماضي، أي قبل أشهر من الحرب على غزة، واجه حوالي 735 مليون شخص الجوع خلال عام 2022، أي بزيادة قدرها 122 مليون شخص مقارنة بعام 2019، كما شهدت منطقة البحر الكاريبي وغرب آسيا ومناطق مختلفة في أفريقيا زيادات في مستويات الجوع. ووفقاً للتقرير أيضاً فإن أكثر من 3.1 مليارات شخص في جميع أنحاء العالم لا يستطيعون تحمل تكاليف اتباع نظام غذائي صحي، ويمثل هذا 42% من سكان العالم، وهي زيادة كبيرة مقارنة بمستويات ما قبل كوفيد-19.

ومن جانب آخر، أظهر تقرير جديد صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية WMO أن الأرقام القياسية قد تحطمت مرة أخرى في ما يتعلق بمستويات الغازات الدفيئة، ودرجات حرارة السطح، وحرارة المحيطات وتحمضها، وارتفاع مستوى سطح البحر، والغطاء الجليدي البحري في القطب الجنوبي، وتراجع الأنهار الجليدية… حيث تسببت موجات الحر والفيضانات والجفاف وحرائق الغابات والأعاصير المدارية المتصاعدة بسرعة في البؤس والفوضى، وقلبت الحياة اليومية للملايين رأساً على عقب وتسببت في خسائر اقتصادية بمليارات الدولارات.

يزداد وضوح آثار تغير المناخ على الصعيد العالمي ويستمر الأمن الغذائي في التآكل على جميع الجبهات: التوافر، والوصول، والاستخدام، والاستقرار. ومع ارتفاع درجات الحرارة والمستويات المتوقعة لثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي في السنوات المقبلة، يمكننا أن نتوقع المزيد من الأحداث المناخية المتطرفة المتكررة وانخفاض القيمة الغذائية في الأغذية الأساسية، وتقلص المحاصيل، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، كل هذا يشكل تهديداً متصاعداً للأمن الغذائي العالمي، وخاصة بالنسبة للفئات السكانية الأكثر ضعفاً في العالم، وعلى الرغم من مساهمتها الأقل في انبعاثات الغازات الدفيئة، فإن بلدان الجنوب العالمي التي تعاني بالفعل انعدام الأمن الغذائي تتحمل عبء هذه التغييرات، وفي المقابل تتحمل بلدان الشمال العالمي المسؤولية عن 92% من الانبعاثات العالمية الزائدة من ثاني أوكسيد الكربون، ومع ذلك فإن كل دولة من دول الجنوب العالمي سوف تبحر في هذه الأزمة بشكل فريد.

حتّى الآن كان عام 2023 هو العام الأكثر سخونة على الإطلاق بالنسبة لكوكب الأرض. بالإضافة إلى ذلك، شهد العام نفسه عودة ظاهرة النينيو، وهو نمط مناخ المحيط الذي يتميز بارتفاع درجات حرارة سطح البحر في المنطقة الاستوائية من المحيط الهادئ والذي يميل إلى تغيير الطقس في جميع أنحاء العالم، وغالباً ما يتسبب في فيضانات وموجات جفاف وعواصف تعطل قطاعات الزراعة وصيد الأسماك وتؤدي إلى ارتفاع مستويات المياه، وبالتالي تسهم هذه العوامل في ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

بحسب الخبراء، يُشكّل تغير المناخ عاملاً رئيسياً في تفاقم أزمة الأمن الغذائي التي يواجهها العالم اليوم، وتنعكس تداعياته من خلال عوامل مختلفة منها:

1- تقليل إنتاجية المحاصيل: حيث يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى تغيرات في درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار، ما قد يؤثر مباشرة على غلات المحاصيل. ويمكن أن تؤدي أحداث الحرارة الشديدة إلى تقليل عملية التمثيل الضوئي ونمو المحاصيل، ما يؤدي إلى انخفاض الغلة. وبالمثل، يمكن أن يؤدي تغير أنماط هطول الأمطار إلى حالات الجفاف أو الفيضانات، وكلاهما يمكن أن يلحق الضرر بالمحاصيل ويقلل الإنتاجية.

2- التحولات في مواسم النمو: يمكن للتغيرات في درجات الحرارة وأنماط الطقس أن تعطل مواسم النمو التقليدية، ما يجعل من الصعب على المزارعين التنبؤ بأفضل الأوقات للزراعة والحصاد، وهذا يمكن أن يؤدي إلى فشل المحاصيل وانخفاض الإنتاجية الزراعية الإجمالية.

3- انتشار الآفات والأمراض: يمكن أن يؤدي ارتفاع درجات الحرارة والظروف المناخية المُتغيرة إلى تسهيل انتشار الآفات والأمراض التي تؤثر على المحاصيل والماشية، ما يؤدي إلى زيادة الإصابة وانخفاض الإنتاجية.

4- ندرة المياه: يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى تفاقم مشكلات ندرة المياه، ما يؤثر على الزراعة البعلية والمروية على حد سواء، كما يمكن للتغيرات في أنماط هطول الأمطار وزيادة التبخر أن تقلل من توافر المياه لأغراض الري، وهو أمر بالغ الأهمية للعديد من المحاصيل.

5- ارتفاع مستوى سطح البحر: تُعتبر المناطق الساحلية ذات الأهمية الحيوية للزراعة، مثل حقول الأرز في المناطق المنخفضة، مهددة بارتفاع مستوى سطح البحر، ويمكن أن يؤدي تسرب المياه المالحة إلى تلويث مصادر المياه العذبة وجعل الأراضي غير صالحة للزراعة.

6- الظواهر الجوية المتطرفة: يمكن أن تتسبب الظواهر الجوية المتطرفة الأكثر تواتراً وشدة مثل الأعاصير في أضرار جسيمة للمحاصيل والبنية التحتية وأنظمة النقل، ما يؤدي إلى تعطيل سلاسل الإمدادات الغذائية.

7- إنتاجية الثروة الحيوانية: يتأثر إنتاج الثروة الحيوانية أيضاً بتغير المناخ، إذ يؤدي الإجهاد الحراري إلى تقليل إنتاجية الماشية، ما يؤثر على إنتاج اللحوم والألبان، ومن الممكن أن تنعكس التغيرات في توافر الأعلاف بسبب تغير أنماط الطقس على صحة الماشية وإنتاجها.

8- تجارة الأغذية العالمية: يمكن أن يكون للاضطرابات المرتبطة بالمناخ في منطقة واحدة آثار مضاعفة على تجارة الأغذية العالمية. وقد يُنتج انخفاض الغلة في منطقة واحدة إلى زيادة الطلب على الواردات، ما قد يؤثر على أسعار المواد الغذائية وتوافرها في جميع أنحاء العالم.

9- سبل العيش الريفية: المزارعون أصحاب الحيازات الصغيرة، الذين يفتقرون في كثير من الأحيان إلى الموارد والتكنولوجيا اللازمة للتكيف مع الظروف المناخية المتغيرة، معرضون للخطر خاصة كانخفاض الدخل وفرص كسب العيش في المجتمعات الريفية التي تعتمد كثيراً على الزراعة.

وعن تحدّيات المنطقة العربية، تقول الباحثة في دراسات السلام والنزاع بيان صبحه لـ”النهار العربي”: “تواجه المنطقة العربية تحديات كبيرة نتيجة لتغير المناخ، وهو تحد يشكل تهديداً كبيراً على الإمدادات الغذائية في المنطقة، حيث يُقدّر نسبة اعتماد المزارعين على المياه الجوفية ومياه الأمطار في الأردن حوالي 80%. ومع تزايد نقص الموارد المائية، فإن تدهور نوعية التربة ونقص الهطول المطري قد يؤديان إلى انخفاض في إنتاج المحاصيل الزراعية بنسبة تصل إلى 30%، وعندما نتحدث عن السودان نجد أن نهر النيل يشكل مصدراً رئيسياً للري، حيث يعتمد الإنتاج الزراعي بنسبة 95% على هذا المصدر، ومع تغير نمط الهطول والجفاف المتزايد، يقدر أن نسبة الاعتماد على مياه النيل تتأثر كثيراً الذي بدوره يضعف القدرة على تحقيق الأمن الغذائي”.

وتكمل صبحه بالقول: “تسببت تقلبات الطقس والظواهر الجوية المتطرفة في زيادة الضغط على القطاع الزراعي، حيث تقدر الخسائر الاقتصادية الناتجة من الجفاف في اليمن بما يقارب 34% من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الزراعي، كما تؤدي هذه التقلبات إلى نقص في الإنتاج الزراعي وزيادة مستويات الجوع والفقر في البلاد، ولا يمكننا إغفال التغيرات الجوية المتطرفة والتغيرات في درجات الحرارة أيضاً التي تؤثر كثيراً على الثروة السمكية في المنطقة، حيث يتعرض صيد الأسماك في أنهار الدجلة والفرات في العراق لتأثيرات سلبية، ويقدر أن ارتفاع درجات الحرارة وتلوث المياه يمكن أن يؤدي إلى نقص في توافر الأسماك بنسبة تصل إلى 20%، ما ينعكس سلباً على الأمن الغذائي، وباعتبار المنطقة العربية معرضة كثيراً لتأثيرات التغير المناخي، فإننا نواجه تحديات هائلة في مجال الأمن الغذائي”.

وعن الحلول ذات الصلة، تشرح صبحه: “لا بد من بذل الجهود المشتركة لتعزيز الوعي بأهمية التكيف مع التغيرات المناخية وتطوير استراتيجيات مستدامة للزراعة وإدارة الموارد الطبيعية بكفاءة، إن تحقيق الأمن الغذائي في المنطقة العربية يتطلب تعاوناً دولياً قوياً وتعاوناً محلياً مستمراً. هو تحد لكنه يمثل فرصة لتعزيز الاستدامة والتنمية في المنطقة”.

تتطلب معالجة تأثير تغير المناخ على الأمن الغذائي اتباع نهج متعدد الأوجه يتضمن التخفيف (الحد من انبعاثات غازات الدفيئة) والتكيف (بناء القدرة على التكيف مع تأثيرات المناخ). ويشمل ذلك تنفيذ ممارسات زراعية مستدامة، وتحسين إدارة المياه، وتطوير أصناف المحاصيل المقاومة للمناخ، ودعم المجتمعات الضعيفة وتوفير التكنولوجيا اللازمة للتعامل بشكل أفضل مع الظروف المتغيرة.