فيما تتكثف التحركات الدولية لإنهاء حالة الانسداد السياسي في ليبيا، وتمهيد الأرض نحو إنجاز الاستحقاقات الانتخابية المعطلة، توجهت الأنظار نحو المنظمات الأهلية الليبية ومستقبل عملها، في ظل ضغوط تعترض نشاطها في بلد تعمه الفوضى السياسية والأمنية. ففيما كانت المنظمات غير الحكومية تُجهز أوراقها، بدعم دولي، للمشاركة في الحوارات الليبية – الليبية للإعداد للاستحقاقين الرئاسي والتشريعي، وإعداد مراقبيها للإشراف على العملية الانتخابية، تلقت ضربة موجعة عندما عمم رئيس حكومة “الوحدة الوطنية” الموقتة عبد الحميد الدبيبة توجيهاً إلى الجهات الإدارية المحلية، يُطالبها بسحب تراخيص كل المنظمات الأهلية التي أُنشئت في أعقاب سقوط نظام معمر القذافي الذي كان يحظر إنشاء تلك الكيانات. فتوى قانونيةقرار الدبيبة استند إلى فتوى قانونية أصدرها المجلس الأعلى للقضاء، نصت على أن “كل المنظمات المبنية على لوائح تنظيمية صادرة عن السلطة التنفيذية، من دون الاستناد إلى أي قانون تشريعي، هي والعدم سواء، وعلى الدولة حلها لعدم صدور أي قانون تشريعي بالخصوص بعد 2011″، في خطوة وصفتها المنظمات بـ”الهجوم غير المبرر”. وطالبت في بيان حمل توقيع أكثر من عشرين جمعية أهلية، بـ”وقف القوانين الجائرة وحملات القمع” التي تستهدف المجتمع المدني. ولطالما اشتكى المجتمع المدني في ليبيا من ملاحقات تواجه ناشطيه، من قبل مجموعات مسلحة غير رسمية، تتصارع على النفوذ، وأيدت تلك الشكوى دول غربية ومنظمات حقوقية دولية. استنكار أمميوفي إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، استنكر الموفد الأممي عبد الله باثيلي “فرض المزيد من القيود على الحيز المدني واعتبار عمليات منظمات المجتمع المدني غير قانونية”، داعياً السلطات الليبية إلى أن “تكون على مستوى التزاماتها في مجال حقوق الإنسان، وأن تضع حداً للإفلات من العقاب وتعمل على توفير مساحة أكبر لعمل منظمات المجتمع المدني”.
المنظمات تردّوقالت 22 منظمة مجتمع مدني ليبية، في بيان مشترك، إن قرار الدبيبة يأتي ضمن “سلسلة الهجمات على المجتمع المدني في ليبيا”. وأشارت إلى أن “المجتمع المدني هو الذي لعب منذ سقوط نظام القذافي عام 2011 دوراً حيوياً في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان ودعم ضحايا الجرائم والانتهاكات بمختلف أنواعها، والحفاظ على التماسك الاجتماعي وتقديم المساعدة الإنسانية لكل فئات المجتمع الليبي ولكل فئات المهاجرين… وواصلت منظمات العمل المدني عملها الدؤوب، رغم تهديدات الجماعات المسلحة واستمرار العنف ضد المدافعين عن حقوق الإنسان”. وأوضحت المنظمات أن الإجراء الحكومي الأخير “يجعل جميع منظمات المجتمع المدني غير قانونية، ويعني في النهاية إغلاق مجال العمل المدني بالكامل في ليبيا”. واعتبرت أن “الحرب القانونية الموجهة إلى المجتمع المدني هي جزء من اتجاه قمعي أوسع يحد من ممارسة الحقوق، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير والحق في حرية التجمع”. وحذرت من أن قرار الدبيبة “يمنع عملياً المراقبة المستقلة للانتخابات المحتملة في عام 2023، والتي من المقرر أن يلعب المجتمع المدني دوراً حيوياً فيها، بما في ذلك مراقبة نزاهة عملية التصويت”. وأضافت أن “هذه الحملة القمعية المتجددة تثير تساؤلات عن نية حكومة الوحدة الوطنية تنظيم انتخابات نزيهة تنقل البلاد نحو الاستقرار والديموقراطية”. وطالبت “السلطات الليبية بإصدار مرسوم ينظم عمل منظمات المجتمع المدني للفترة الموقتة، مع مراعاة المعايير الدولية لحقوق الإنسان وبالمشاركة مع المجتمع المدني، حتى يجري إصدار قانون جديد ينظم عمل المجتمع المدني من السلطة التشريعية الجديدة”. “استشاري غير ملزم”رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان أحمد حمزة قال لـ”النهار العربي” إن “ما جاء في الفتوى القانونية الصادرة من المجلس الأعلى للقضاء، هو مجرد قرار استشاري غير ملزم ولا يرقى إلى مستوى الحكم القضائي النافذ، ومن المفترض ألا يمس المراكز القانونية للمنظمات والجمعيات الأهلية التي حظيت بصفات اعتبارية واستكملت شروط تأسيسها”. ورأى أن قرار حل الكيانات “لا يأتي إلا بحكم قضائي بحق من يُتهم بما يجرمه القانون الليبي، أما الذهاب بعيداً بهذه الشكوى فأمر لا يخدم المصلحة العامة”، لافتاً إلى “تقديم المنظمات غير الحكومية عشرات التظلمات ضد هذه الفتوى إلى نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء، النائب العام، المستشار الصديق الصور الذي تفهم ملاحظاتنا وتحفظاتنا”. وأضاف: “سيتم النظر في التظلمات، وتلقينا وعوداً بإعادة النظر في الفتوى الأخيرة التي تتناقض مع نصوص قانونية ودستورية تضمن حرية عمل المنظمات الأهلية ولا يجوز المساس بها”.
ورأى أن حكومة الوحدة الوطنية “وظفت تلك الفتوى بما يسهم في تضييق الخناق على حرية تشكيل المنظمات الأهلية ونشاطها، وهو استكمال لنهج هذه الحكومة منذ اليوم الأول لتشكيلها في قمع المنظمات الأهلية وتقويض نشاطها، خصوصاً تلك المعنية بمراقبة الانتخابات ومكافحة الفساد”. وقال الناشط وليد المصراتي لـ”النهار العربي” إن الفتوى القانونية الأخيرة استندت إلى أن منظمات المجتمع المدني تعمل من دون قانون صادر عن السلطة التشريعية منذ عام 2011، وهذا أمر يدين السلطة التشريعية، لا المنظمات الأهلية التي تتعرض للتضييق من الحكومات المتعاقبة”. وتساءل: “كيف يتم لوم مؤسسات المجتمع المدني بسبب تقاعس جهات أخرى عن أداء مهامها؟”. واستغرب تبني حكومة الوحدة الوطنية الفتوى المثيرة للجدل، رغم أنها شكلت في شباط (فبراير) الماضي، لجنة تدرس طلبات إشهار الجمعيات الأهلية. واتفق المصراتي مع حمزة على كون “ما صدر عن المجلس الأعلى للقضاء لا يعد حكماً قضائياً، وبالتالي غير مُلزم”. منع مراقبة الانتخابات؟كذلك حذر الناشط مروان الحاسي من أن الإجراء الحكومي الأخير “يعني منع مراقبة المنظمات المدنية المستقلة للانتخابات، والتي تمثل الحجر الأساس في ضمان نزاهة الاقتراع، الأمر الذي يضع الاستحقاق الدستوري على المحك، ويثير تساؤلات عن نيات تلك الحكومة بشأن الانتخابات”. وأضاف: “المنظمات الأهلية لعبت أدواراً في التوعية بأهمية إجراء الانتخابات، والنصوص القانونية التي يجب توافرها لإجراء اقتراع شفاف ونزيهة، فهل يُعقل أن تُجرى من دون إشراف المجتمع المدني؟”.