محمد بن سعيد الفطيسي
تدخل العلاقات الروسية الأميركية العام 2019 وهي في اسوأ حالاتها في القرن 21، وليس ادل على ذلك من تعليق كل منهما “انسحاب مبطن” من العمل بمعاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى الموقعة بينهما في العام 1987م والتي دخلت حيز التنفيذ في العام 1991م، حيث دمر الاتحاد السوفياتي حينها 1792 صاروخا باليستيا ومجنحا تطلق من الأرض، ودمرت الولايات المتحدة الأميركية 859 صاروخا, وتدور هذه المعاهدة حول منظومات الصواريخ، التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000-5500 ك/م، ومداها القصير ما بين 500-1000 كيلومتر.
والمتتبع لمواقف القوتين يلحظ حدة واضحة في لغة التهديد، وارتفاع في سقف الشكوك والمخاوف بينهما، وتراجع نسبة الثقة الى حد خطير جدا، خصوصا من قبل الولايات المتحدة الاميركية تجاه الروس، وما يبدو مؤكدا ان الولايات المتحدة الاميركة في عهد الرئيس ترامب اخذت تراجع نفسها حيال العديد من المواقف السياسية الدولية والاتفاقيات التي ابرمتها مع العديد من دول العالم، حيث ان للرئيس ترامب موقف مختلف تجاه تلك المعاهدات، فهو لا ينظر اليها من موقف السلام والامن، بقدر ما ينظر إليها من موقف القوة والهيمنة.
ففي الأولى تقبل الدول التسويات والتنازلات وكذلك التوازنات بين اطراف المفاوضات، على ان في الثانية تحاول الدولة الاقوى فرض شروطها السياسية ومواقفها الجيوسياسية بما يلائم عقيدتها العسكرية وتوجهاتها القومية، دون مراعاة او حساب لمصالح بقية اطراف النزاع حتى وان كان هذا على حساب السلام والأمن الدوليين، وهو ما فعلته الولايات المتحدة الاميركية على سبيل المثال من الملف النووي الايراني، وقد اكدت مجلة “The Nation” الأميركية، في مقال لها تحت عنوان هل روسيا هي المسؤولة الوحيدة عن انتهاكات معاهدة الحد من الأسلحة النووية؟ من انه (ليس كل ما يتم تداوله في الأوساط الإعلامية الأميركية حول خرق روسيا من جانبها لمعاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى صحيحا) وختمت المجلة بطرح سؤال على الأميركيين، قائلة: (هناك احتمال كبير أن روسيا تخرق المعاهدة الصاروخية، لكن ينبغي التفكير والتساؤل عن دور الولايات المتحدة بالتصعيد وإرغام موسكو على اتخاذ خطوات دفاعية لتخرق بهذا الإجراء المعاهدة الصاروخية).
ويبدو من الموقف الاميركي انها تحاول عبر هذا التغيير اعادة توجيه بوصلة العلاقة الروسية الاميركية الى اتجاه جديد تؤكد فيه الولايات المتحدة الاميركية انها ما زالت القوة الدولية رقم واحد عبر تلك المساحة الفارقة من القوة والهيمنة والسلطة السياسية والعسكرية الدولية بالرغم من انها لم تصرح بذلك في مواجهة القوة الروسية المتصاعدة، وقد أكد الرئيس الاميركي ترامب هذا الاتجاه بطريقة غير مباشرة في خطابة السنوي امام الكونجرس، حيث قال: (في ظل إدارتي، لن نعتذر أبدا عن تعزيز مصالح أمريكا. فعلى سبيل المثال، وقعت الولايات المتحدة قبل 10 سنوات اتفاقية مع روسيا، اتفقنا بموجبها على الحد من قدراتنا الصاروخية وخفضها. وبينما كنا نمتثل تماما للاتفاقية، انتهكت روسيا بشكل متكرر شروطها).
في المقابل تبدو روسيا “بوتين” اكثر هدوء واتزان وثقة في نفسها، وكان هذا الانسحاب المبطن ليس اكثر من دعاية تسويقية للهيمنة الاميركية وهي تلفظ انفسها الاخيرة كقوة مركزية دولية، وهو ليس اكثر من غرور للقوة العظمى في مواجهة نظام دولي اقرب ما يكون الى نظام تعددي منه الى الثنائية او الاحادية القطبية، وعلى ذلك فان هذا السلوك الاميركي ليس اكثر من محاولة للي الذراع الدولي من جهة، عبر نشر الخوف والذعر من عودة تسلح دولي جديد، وكذلك لي للذراع الروسي الذي اصبح من الاستحالة ليه الآن، وروسيا تسير باتجاه تعميق نفوذها الدولي بشكل واضح وصريح على رقعة الشطرنج الدولية في القرن 21.
على ضوء ذلك فإن النتيجة واضحة الى حد بعيد، وسيناريو العودة لن يكون ذا اهمية الا من خلال تطبيق مبدا التوازن والاتزان بين القوتين العظميين، فروسيا لن تقبل الاذعان للشروط والاملاءات الاميركية خصوصا في هذا الوقت الذي نجحت فيه والى حد بعيد جدا من استعادة قوتها ومكانتها الدولية، لذلك فإن السيناريو الممكن التنفيذ في هذه الحالة هو سيناريو الاتزان والمساواة في تنفيذ الشروط بين الطرفين، وفي هذا السياق قالت وزارة الخارجية الروسية (إن روسيا منفتحة للحوار الموضوعي حول معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، في حال إعادة واشنطن النظر في نهجها الهدام وعادت للالتزام بالاتفاقية).
محمد الفطيسي