مقالات

الأزمة في فنزويلا واختلاط الأوراق

 
محمد بدرالدين زايد
 
 
تقدم أزمة فنزويلا الراهنة نموذجاً واضحاً على حالة اختلاط الأوراق والرمادية التي تسود عالمنا الراهن، فهناك رئيس يفترض أنه منتخب وشرعي مدعوم بنسبة مهمة من الجيش أو أغلبه ونسبة مهمة من الشعب، وآخر منتخب كعضو برلمان وأصبح رئيساً لهذا البرلمان أي أنه يحظى بدعم الأغلبية البرلمانية، كما تؤيده نسبة أخرى مهمة من الشعب، وقد نصب نفسه رئيسا موقتاً للبلاد، ولم يتخذ ضده إلا إجراء قانوني رئيسي وهو المنع من السفر، وهو ما لم يمنعه من مغادرة بلاده بالفعل أو الإعلان عن ذلك، ومن يسيطر على الجيش أي الرئيس مادور لم يحرك الجيش للقضاء على هذا التمرد حتى الآن، ربما خشية من مواجهات خارجية بأكثر من الخوف من مذابح شعبية يصعب السيطرة عليها.
 
 
الوضع الاقتصادي في هذه الدولة كارثي، وليس مقنعاً لأي عاقل، فكيف تصبح دولة من كبرى منتجي النفط، ويقال إنها تمتلك أكبر احتياطاته في العالم، كما أن لديها مخزوناً آخر هائلاً من الثروات الطبيعية والفرص الاقتصادية إلى أحد أكثر الدول من حيث معاناة شعبها إقتصادياً، ووسائل الإعلام الغربية تحمل هذا الفشل التاريخي على الحكم اليساري الحالي، رغم أن هناك حقيقة أخرى، وهي أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية قبل شافيز الذي مهد حكمه لخلفه الحالي مادور وكلاهما يساري، نقول إنه ثابت أن الأوضاع كانت أسوأ، وبدا أنها تحسنت نسبياً خلال حكم شافيز، ثم تحولت الآن إلى هذا الانهيار المخيف وربما بشكل فاق أي مرحلة سابقة، من تضخم وفقر شديد وانهيار لسعر العملة الوطنية بشكل غير عادي، للمرء أن يسأل نفسه، هل الفساد قد يصل بدولة ما إلى حد أنه حتى تغير أيديولوجيات الحكم والأفراد لا تحدث فارقاً في سوء الأحوال في البلاد؟ هل الفساد يمكن أن يصبح ثقافة مجتمعية مدمرة؟ وهو سؤال صعب، ولكنه يستحق دراسة علماء الاجتماع والسياسة.
 
دولياً المشهد لا يقل رمادية، رغم أنه قد يبدو جزءاً من الاصطفافات الدولية الراهنة، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك تماماً، فمنذ اللحظة الأولى قادت واشنطن حملة التأييد الدولي لخوان جوايدو، تلتها دول ذات نظم حكم يمينية من الدول اللاتينية وعلى رأسها البرازيل، ثم الدول الأوروبية الرئيسية كالمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا ودول أخرى عديدة، وفي مشهد كلاسيكي عارضت روسيا والصين وإيران هذه المواقف الغربية، وطبعاً الدول اللاتينية ذات النظم اليسارية أو تلك التي تتحفظ ولديها الكثير من الشكوك المشروعة في السياسات الأميركية مع وجود دور تاريخي أميركي سلبي ومعروف في القارة اللاتينية، ولكن تركيا قامت بمفاجأتها وأعربت عن تأييد مادور، في ضوء مصالحها الاقتصادية وعلاقات التأييد المتبادل مع النظام اليساري، وربما نابعاً من محاولاتها إعطاء إنطباع بأن لها سياسة ثابتة في مثل هذا النوع من المواقف، وكي تتعمق حالة الرمادية فإن دولة كاليونان عضو التحالف الأطلنطي وخصم تركيا تؤيد مادور، وعلى هامش هذا الاستقطاب حديث آخر عن محنة تسيس إدخال مساعدات أميركية وروسية بينما يستمر الشعب
 
في معاناته.
 
لم يكن غريباً بعد هذا الاستقطاب أن يتحدث كثيرون عن عودة مناخ الحرب الباردة، وهي مفارقة مضحكة أن تتصدى موسكو للدفاع عن نظام سياسي تخلت عنه رغم أن تطبيقه الاشتراكي هذا غير واضح المعالم، ولم يعد يمثل إلا جزءاً من ذاكرة بعض الأحياء من الشعب الروسي وقياداته، ربما ما زالوا يحلمون بمكانة بلادهم خلال الفترة السوفيتية، ولكني لا أظن أن لدى أغلبية الشعب الروسي وبوتين نفسه وهم إعادة طرح هذه الأيديولوجية وتطبيقها الذي ثبت فشلها وعدم قدرتها على الصمود.
 
ولكن واشنطن تتعجل تعقيد الموقف، فبعد إجراءات إقتصادية قاسية شملت وضع أصول الشركات الفنزويلية في البنوك الأميركية وكذا الأصول المملوكة للبنك المركزي الفنزويلية تحت تصرف خاويدو فضلاً عن إجراءات سويسرية وغربية أخرى خانقة لفنزويلا وليس فقط حكومة مادور، خرج رئيسها ترامب الذي يبدو بحاجة لمخرج ما من سياساته المختنقة في الداخل والخارج، بفتح جبهة جديدة بإعلان استعداده لعمل عسكري ضد مادور والجيش الفنزويلي، ما ينقل الصراع إلى أفق آخر معقد، وملتبس، ما أسفر عن تراجع سريع وفوري للدول الأوروبية التي عبرت عن تحفظها ضد أي عمل عسكري في إدراك واضح عن مدى المخاطرة في هذه الخطوة التي ستجعل مادور بطلاً شعبياً في كل أميركا الجنوبية وليس فقط في بلاده، وسيفقد معها جوايدو الكثير من التأييد الخارجي
 
والداخلي.
 
وتطرح تصريحات ترامب هذه الكثير من التساؤلات، والرجل في وسط أزمته مع الكونجرس، هل سيستطيع في ظل أزمة الجدار مع المكسيك وإعلانه حالة الطوارئ أن يجد تأييداً داخلياً كافياً لاستصدار قرار بالحرب أو بالتدخل في عملية عسكرية محدودة، هل من ضمن صلاحيات الرئيس في حالة الطوارئ- التي يعارضها الكثيرون إلى حد تهديد ولايات أميركية بمقاضاته –إمكانية السماح له بهذه الخطوة، كما تتحرك زعيمة الأغلبية البرلمانية بيلوسي لمواجهة مسألة فرض الطوارئ؟ الأرجح أن ترامب الذي أثبت لأعدائه ومؤيديه قدرته على تنفيذ وعوده وتهديداته دوماً يعتمد على التهديد وتأثيره النفسي في الجيش الفنزويلي الذي أيد تاريخياً الحكام المختلفين مع استفادته من كعكة الفساد المخيفة التي تبقي هذه الدولة الشديدة الثراء شديدة الفقر لشعبها، وهو سيناريو خطر، ولكن وزير الدفاع الفنزويلي حسم رده بقوة على ترامب مؤكداً ولاء الجيش لمادور وتحدي ترامب مؤكداً قدرة جيشه على الصمود.
 
من ناحية أخرى فإن أبعاد الانقسام الشعبي غير واضحة بعد من حيث مدى عمقها، حيث تعتمد على تسيير مظاهرات من الطرفين لا تكفي للحكم على التوجهات الفعلية للأغلبية الحقيقية.
 
ومن ناحية ثالثة إذا فعلها ترامب فسيكرس من جديد لتيارات اليسار في أميركا اللاتينية فرصة جديدة للازدهار رغم فشلها في أغلب تجارب الحكم في هذه البلدان، فضلاً عن أن روسيا التي ستكتفي بالإدانة، وطرح الأمر على مجلس الأمن كي يتم نقضه، ستنتهز هذه الخطوة لمزيد من التوسع في نطاقها الجغرافي، وسيكون السلوك الأميركي مشابهاً للروسي في حالة فنزويلا، ما يعطي مزيداً من الشعور في العالم بحالة الفوضى وطغيان القوى العسكرية الكبرى .
 
على رغم سوء الأحوال الشديد في فنزويلا، وأن هناك دوماً سؤالاً مطروحاً حول المسؤولية الإنسانية والدولية في التعامل مع هذه الحالات، إلا أنني لست من المرحبين بطريقة تدخل واشنطن ورئيسها في هذه الأزمة من حيث المبدأ، كون هذا يرسخ ويعيد تقاليد الأميركي القبيح في أميركا اللاتينية، ويؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار، وعدم التأكد الدوليين، ويزيد من ملفات التوتر الدولي، والمؤكد أن الأنسب للتطور السياسي السليم في البلدان المختلفة هو عدم تدخل الخارج الذي أثبت في الغالب الأعم أنه يعقد من التطور السياسي الطبيعي ومن بناء النظم السياسية المؤهلة لتحقيق الديموقراطية والازدهار لشعوبها، والمؤكد أيضاً أن سجل الغرب وواشنطن عموماً في هذه التدخلات هو سجل سلبي.
 
* كاتب مصري.