هم جميعا واقفون على حافة ذلك الخط الرفيع الفاصل بين العقل والجنون.. أو ربما هى حافة الهاوية.. نحن وهم من البحر إلى النهر إلى الشط والخليج لا يبعدون سوى بشرارة قد تشعل السهل والحقول والأراضى والبشر قبل الحجر.
***
التوجس هو ما يخيم عليهم والخوف بل الذعر من القادم هو ما يقف بين شهيق وزفير. يتراقص بعضهم فرحا، ربما عن جهل أو قلة قراءة للتاريخ أو عدم فهم للمجتمعات وعلم البشر أو فقط لمصالح شخصية ضيقة جدا لطالما كانت تحكمهم.. ويتكاثر تجار الحرب المغردون الفرحون به.. وكأن الأرض لم تكتف بعد، وكأن النزوح والمرض والتشرد لم يطل الملايين من أهلهم أو من أهل أهلهم!!! وكأن المقابر لم تفض بساكنيها حتى ضاقت الأرض بالموتى أكثر من الأحياء الذين يدبون على الأرض دون النظر لبعيد، أو ربما حتى دون النظر لما هو أبعد من منخارهم.
***
يقول ذاك الكاتب الجالس فى مقهاه اللندنى بعد أن شبع تنظيرا ونصحا وتخويفا: احذروا فقد طفح الكيل، ويكمل احتساء كأسه والحسناء بل الحسناوات يجالسنه ويكثرن الود له.. القائد الجرنال رئيس التحرير السابق ومحرر الإعلام العربى وتكثر ألقابه ولا ينقصها إلا ما هو واقعه حقا.. وهو ليس الوحيد فذاك الآخر الذى دافع عن حملة السيوف فى القرن الواحد والعشرين ووصفهم بكثير من النبل، هو الآخر لم يتحمله ممولوه فهرب بعيدا وراح يرسل بالنصح وكأن صوت العقل داهمه فجأة!!!
***
عندما تشعل شرارة حاذر من أنها لن تحرق السهل البعيد فقط بل ربما تحرق بيتك وبيت أسرتك وتطال الأخضر واليابس أو ما تبقى منه بعد سنين من الفساد والهدر والبذخ المفرط فيه والفجور المغلف بأسماء الله الحسنى!!!
***
فى الدرس الأول بالفصل الأول لتلك المدرسة المتواضعة يقول المعلم للأطفال: إن للكبريت استخدامات عدة، ويحذرهم من أنه كما يساهم فى طهى طعامهم وتدفئة منازلهم فقد يحرقها أيضا وهم جميعا نائمون نوما عميقا!!! تعيد المدرسة هذا الدرس حتى تحفظه للأطفال فيخاف الأطفال اللعب بالنار فيما تتراءى لهم صور عدة لكبار يحرقون مدنهم مدينة بعد أخرى وبذات الكبريت وتلك النار.
***
تعود للوجوه المتعبة فى المركبات المحطمة وتلك الجالسة عند أطراف المدن تعيش بين بين، أى بين بعض الحياة وكثير من الموت، تراها الأخرى كلما قالت هذا أقصى الألم والوجع والخوف من القادم، ما إن تستفيق من ليلها الهادئ حتى يأتى الصباح على وقع طبول الحرب بل الحروب على تنوعاتها.. فلا الدبابات بقيت آلة وحيدة للحرب ولا الصواريخ التى تصطاد الأطفال فى مناماتهم ولا حتى الطائرات الكاسرة لحاجز الصوت…. ليست هذه وحدها أدوات الحروب فى زمن الحداثة بل هى متنوعة وكثيرة.
***
تترقب الوجوه المتعبة الأخبار القادمة.. هى مجهدة وغير قادرة على تفسير غير المفسر فتتبرع كتائب من المحليين والمنظرين لتفسير المفسر وشيطنة الرسائل وتعليبها بشكل يتلاءم مع المطلوب.. ولكنها لا تقول لهم طبعا أن عليهم هم أيضا الذين تصورهم كمنتصرين، أن يجهزوا أكفانهم ويخيطوها خيطا خيطا ويخزنوا الصور لبيوت كانت وشوارع ومقاهى والأهم بشر وأحبة.
***
ماذا تفعل الوجوه المتعبة أصلا عندما يسقط الصاروخ؟ لا طائرة خاصة وحسابات خاصة فى بنوك سويسرا ستحميها ولا شقة فى ضواحى لندن أو أحيائها الفاخرة ولا حتى خندق تدارى به أطفالها من صاروخ أو قنبلة أو حريق!!! ولا مزرعة تحصد ثمارها فتأكل ولا مصنع يكسوها ولا شىء سوى التراب والحجر وروائح الموت..
***
وهم لا يزالون يقرعون طبول الحرب عليهم أن يقولوا لهؤلاء الفرحين بالحرب القادمة على الشر كل الشر ذاك لا غيره، عليهم أن يقولوا لهم بعض الحقيقة أو حتى أن يرشدوهم إلى الطريق، فبعد الشرارة الأولى لن يبقى حجر فوق حجر والرياح تجرى بالحريق من هنا إلى هناك وعند حافة الهاوية لا يزال صوت ذاك المحلل يجلجل صمت القبور يحذر ويخوف ويحفز على الكراهية، ولا شىء سواها، ثم يخرج من الأستوديو أو يترك مكتبه ليكمل كأسه عند ذاك المقهى فى ذاك الشارع البعيد البعيد..