مقالات

الشكل المتغير للحرب واستراتيجيات الصراع في النظام العالمي القادم (2-2)

 
 
محمد بن سعيد الفطيسي
 
” .. نحن هنا لا نتحدث عن الدول الكبرى أو القارية فقط, بل حتى تلك الدويلات والقوى ذات الأحجام الصغيرة حيث ستبذل جهدها لتعويض ضعفها العسكري عبر العالم الفيزيائي بتشكيل تحالفات عسكرية وامنية افتراضية عابرة للحدود الوطنية بهدف صناعة التوازنات وامتلاك القوة واسلحة الردع أو الهجوم. مع التأكيد على ان تلك التحالفات ليس بالضرورة ان تكون بمشاركة دول وحكومات.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التركيز في اطار التغيير القادم للشكل المتغير لساحات المعارك والأدوات والوسائل المستخدمة في الصراع وحروب المستقبل والتي لا بد ان يعيها المنظر والمقرر العسكري والأمني والسياسي الاستراتيجي. والتي يمكن استنتاجها مما يدور اليوم على رقعة الشطرنج العالمية, في ظل تسارع تلك المتغيرات والتوجهات الكبرى في النظام العالمي المتشكل من تعددية قطبية فضفاضة أو نظام حكم الكثرة ( ). ستدور حول الجوانب التالية:-
اولا: سيرتفع سقف التحركات احادية الجانب للعديد من الدول دون اعتبارات لحجمها في مواجهة من تعتبرهم خصومها. وكذلك دون مراعاة للقوانين الدولية أو الاعتبارات الانسانية نظرا لوجود الامكانيات التكنولوجية المتقدمة لديها بسبب وجود المال والثروة.
ونحن هنا لا نتحدث عن الدول الكبرى او القارية فقط, بل حتى تلك الدويلات والقوى ذات الأحجام الصغيرة حيث ستبذل جهدها لتعويض ضعفها العسكري عبر العالم الفيزيائي بتشكيل تحالفات عسكرية وامنية افتراضية عابرة للحدود الوطنية بهدف صناعة التوازنات وامتلاك القوة واسلحة الردع أو الهجوم. مع التأكيد على ان تلك التحالفات ليس بالضرورة ان تكون بمشاركة دول وحكومات. بل يمكن ان تعتمد فيها على شبكات ومنظمات ارهابية عابرة للحدود الوطنية. او خصوم افتراضيين قادرين على موازنة الصراع عبر شبكات التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية.
ثانيا: سيرتفع سقف التسلح النوعي على حساب الكمي، فعلى سبيل المثال ستنتشر الاسلحة التي تحمل اكثر من رأس نووي كبديل لكثرة الصواريخ التي تحمل رأس مفردا، وكذلك الاسلحة المتقدمة كالأسلحة الكهرومغناطيسية على سبيل المثال لا الحصر، كما ستتوجه اغلب الدول إلى اسلحة الردع والاحتواء على حساب اسلحة الهجوم، حيث سيبدأ عصر جديد من هيمنة الاسلحة المضادة والتي ستمكن الدول من موازنة قوتها وكبح التهديدات الموجهة إليها مسبقا. بالرغم مما يحمله هذا التوجه من مخاطر شديدة، حيث يمكن ان ينتج عن ذلك بعض الأخطاء والانفعالات التي سينتج عنها حروب مدمرة، أو بسبب امتلاك الأفراد والتنظيمات الإرهابية تلك الأسلحة النوعية.
ثالثا: ستمكن التكنولوجيا الحديثة من انتقال السلطة إلى الأفراد والمدنيين “المواطن العالمي” في “دولة افتراضية “. فالمشهد ( الراهن لآثار الثورة الصناعية الثالثة على واقع الأنظمة السياسية والحكومات المركزية القائمة لا يزال في مراحله الأولى، إلا ان الواضح من آثاره تلك على الواقع السياسي لتلك الحكومات والأنظمة في مختلف أرجاء العالم، يكفي للتأكيد على أننا مقبلون على مرحلة عالمية جديدة حول طبيعة القوة والسياسة في القرن الحادي والعشرين، ستشكل فيها تلك التطورات التكنولوجية وثورة المعلومات والانترنت في العصر الرقمي أحد أبرز عوامل القوة السياسية – والعسكرية والأمنية – من جهة، وعناصر ضعف الدول والحكومات من جهة أخرى) ( ) فوجود كل هذه الأعداد من البشر المتصلين بالعالم الافتراضي سيكشف لاحقا عن قوة جديدة للأفراد والمخترقين الارهابيين بغض النظر عن توجهاتهم حيث (ستقف الطبيعة الضوضائية للعالم الافتراضي حجر عثرة امام قدرة أمن الدول على مواكبة الفعالية الثورية وسحقها… كما سيغير انتشار الاتصالات من نظرتنا إلى المجموعات المعارضة في المستقبل وستغير وفرة المشاركين في الميدان الافتراضي مشهد النشطاء تغييرا جذريا )( ).
رابعا: سيتم الاعتماد بشكل رئيسي على التكنولوجيا المتقدمة في صراعات ونزاعات المستقبل، خصوصا (الأدوات والتقنيات السبرانية) في العالم الافتراضي أو حتى الفيزيائي، والتي ستهدف بشكل رئيسي للتعرف على ما يملكه الخصم عبر التجسس عليه دون مراعاة لأي نوع من الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية أو الجوارية. بالتالي فإن المعلومات الاستراتيجية والقدرات الاستخباراتية والأقمار الصناعية المتعلقة بالتجسس ستكون العامل الابرز في حروب المستقبل. ومن ثم السعي إلى شل حركة الخصم وقوته عبر نشر تلك الفيروسات الفتاكة في جسده الافتراضي، أو عبر اطلاق شبكة متكاملة من ادوات الحرب النفسية ونشر القلاقل والثورات والانقلابات والمشاكل العابرة للحدود الوطنية وتأجيج الشعوب على حكوماتها عبر نشر معلومات مغلوطة أو كشف حقائق خفية أو فضح تلك الحكومات عبر نشر بعض السلوكيات والتصرفات والقرارات الفاسدة، ومن ابرز الأمثلة على ذلك كانت وثائق ويكيليكس.
خامسا: طبيعة الأمن العسكري آخذة في التغيير، حيث سيرتفع سقف العمليات الإرهابية المستخدمة وممارسة الإرهاب عبر العالم الافتراضي أو باستخدام ادوات تكنولوجية متقدمة والتي ستستخدم ادوات وشبكات العالم الافتراضي، سواء كانت موجهة إلى دول أو إلى افراد ومنظمات رغم ذلك فإن تقانات الاتصالات ستجعل اولئك الإرهابيين اقل حصانة من أي وقت سابق. وستنتشر الأجهزة الإرهابية المنزلية أو تلك التي يمكن شراؤها من اقرب المحلات التجارية الصغيرة على ارصفة الشوارع من قبل الأطفال.
وقد (يكون المهاجمون اليوم حكومات أو مجموعات أو افرادا أو خليطا من نوع ما, وقد يكونون مجهولين, بل وقد لا يقتربون حتى من البلد, ففي العام 1998م اشتكت واشنطن على سبعة عناوين موسكوفية على الانترنت متورطة في سرقة اسرار البنتاغون ووكالة الفضاء الوطنية الأميركية, ردت الحكومة الروسية بأن ارقام الهواتف التي جاءت منها الهجمات كانت غير شغالة, فلم تكن لدينا أي طريقة لمعرفة ما اذا كانت الحكومة متورطة في هذا الأمر ام لا , وهناك اكثر من ثلاثين امة طورت برامج كمبيوتر عدوانية حربية، ولكن كما يعرف أي شخص يملك جهاز كمبيوتر، فإن في وسع أي شخص ان يدخل هذه اللعبة ايضا , فمن خلال بضع شربات على المفاتيح يقوم بها مصدر مجهول في أي مكان من العالم، يمكن الدخول إلى شبكات القوة الخاصة التي تغذي المدن الأميركية وممارسة التخريب والتشويش عليها , أو إلى الأنظمة العامة للاستجابة لحالات الطوارئ ).( )
سادسا: التغيير والتطور في ابعاد العولمة العسكرية : لا يمكن ان تتسع السطور القادمة للتطرق إلى تفاصيل هذا التغيير المؤكد في ابعاد العولمة العسكرية خلال العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين , الا ان تركيزنا الرئيسي سيكون حول موضوع محفزات التدخل كمقدمة للحروب وتغيير الخرائط الدولية، عبر ما يطلق عليه حماية الأمن القومي أو التدخل الإنساني، وهو اجراء تقوم به دولة او اكثر ضد حكومة دولة اخرى بغية انهاء مخالفات وخروقات تقترفها هذه الأخيرة لقوانين الإنسانية أو بسبب شماعات انتهاكات دولة او جماعة لأمنها القومي، ما يجعلها تقوم بالتدخل في تلك الدولة.
ويحدث هذا الأمر في العادة حينما (تحدث تغيرات في موازين القوى وتتعاظم قوة دولة وتنكمش قوة دولة اخرى، نتيجة للتطورات الاقتصادية والسياسية، وغالبا ما تحدث التغيرات نتيجة الحروب الكبيرة كما حدث خلال الحربين العالميتين، وفي حالات اخرى انهيار احدى الدول نتيجة الضغوط الخارجية أو بسبب مشاكلها الداخلية كما حدث مع الاتحاد السوفيتي. بعد هذه التغيرات يظهر فراغ القوة في اماكن متعددة، ولا سيما في المناطق التي كانت تسيطر عليها القوة المنهارة, وكثيرا ما يشكل التدخل الأخلاقي, أي استخدام مفاهيم اخلاقية في هذه المناطق – أو عبر استخدام شماعات الأمن القومي أو حماية النظام الدولي أو القضاء على اعداء وخصوم ارهابيين مفتعلين – خطوة اولى على طريق الإعداد للتدخل العسكري ).( )
وهنا يلاحظ ان ابعاد العولمة العسكرية اصبحت اكثر تعقيدا من ذي قبل، فبالرغم من ان (الحرب الباردة جاءت بإلغاء العولمة العسكرية، أي النزاعات البعيدة بين القوى الكبرى ….الا ان الزيادة في العولمة الاجتماعية على مدى عقود مضت كان لها تأثير معاكس، فقد ادخلت ابعادا جديدة للعولمة العسكرية: التدخل الإنساني, الإرهاب, ذلك ان الاهتمامات الإنسانية المتفاعلة مع الاتصالات الدولية قد ادت إلى ضغوط من اجل التدخل العسكري في اماكن كثيرة حول العالم مثل الصومال والبوسنة والهرسك – بل ويمكن ان يصل الأمر في بعض الأوقات إلى تعميم استخدام تعاليم القوة – فمن اجل استنباط استراتيجية لمواجهة الولايات المتحدة، اقترح بعض المسؤولين الصينيين من المستوى المتوسط استخدام الإرهاب وتهريب المخدرات ودهورة البيئة ونشر فيروسات الكمبيوتر – وجادلوا بانه كلما زاد تعقيد الخليط – أي استخدام الإرهاب والحرب الاعلامية والحروب المالية – كلما كانت النتائج افضل ). ( )
اذا وباختصار سيتجه النظام العالمي في العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين نحو اشكال جديدة وادوات حديثة للصراع والحروب وامتلاك القوة، سيختزل فيها الكم بالكيف والنوع، وستتحرك الدول احاديا لتحقيق اهدافها الجيوسياسية والاستراتيجية على رقعة الشطرنج الدولية رغم التكاليف الباهظة لهذا التصرف على الصعيد القانوني والإنساني، وستتوزع القوة بين الدول والأفراد عبر وسائل واساليب عصرية متقدمة، قليلة الكلفة ولكنها في ذات القوة مؤثرة بشكل كبير في النظام والنفوذ والسلطة، كما ستتغير طبيعة الأمن العسكري والقومي وابعاد العولمة العسكرية في ظل النظام العالمي القادم.

admin