تختلف إيران مع الولايات المتحدة في كل شيء إلا في المسألة العراقية.أولويات الحشد الشعبي بوضوح
بعودة الميليشيات الشيعية إلى قصف القواعد العسكرية الأميركية تؤكد إيران أن حربها بالوكالة يمكن أن تستمر بالرغم من أنها أدارت ظهرها رسميا لحركة حماس وأوقفت حزب الله عند حدود تبادل القصف المدفعي غير المنتظم الذي لا يشكل حرجا لإسرائيل. وإذا ما كانت تلك الميليشيات قد تبنت موقفا منددا بالاصطفاف الأميركي وراء العدوان الإسرائيلي فإنها في الوقت نفسه لم تخرج عن الخطة التي كانت قد نفذت فصولا منها قبل حرب غزة من أجل إزعاج القوات الأميركية وإجبارها على مغادرة الأراضي العراقية بعد أن نجحت في الدفع بمجلس النواب العراقي على المصادقة على قرار خروج القوات الأجنبية من العراق.
ولكن الأمر يمكن قراءته من جهة أخرى، بعيدا عن المنطلقات النظرية للمقاومة الإسلامية التي اتضح أنها ليست قابلة للتطبيق في اللحظات الحاسمة. ففي وضع مستقر نسبيا كالذي يعيشه العراق لأول مرة بعد أكثر من عشرين سنة، في ظل غياب كلي للتنظيمات الإرهابية كان يجب على إيران أن تبحث عن وظيفة لميليشياتها، تؤكد من خلالها ضرورة بقائها واستمرارها قوة رديفة للقوات المسلحة كما نص على ذلك القانون الذي صار بمثابة وثيقة دامغة لا يمكن لدعاة نزع السلاح غير القانوني ألا أن يصمتوا أمامها. تحرير العراق من بقايا القوات الأميركية هو ورقة قابلة للاستعمال في ذلك المجال، وما من أحد من معارضي وجود الميليشيات يمكنه الاعتراض عليها.
ولأن القصف بصيغته الجديدة لا يلحق أضرارا بشرية أو مادية وليس المقصود منه القيام بذلك، فإن رد الفعل الأميركي لا يزيد عن فرض عقوبات على شخصيات تقود هذا الفصيل أو ذاك من فصائل الحشد الشعبي. لا تخفي الفصائل المسلحة سخريتها من تلك القرارات التي لا تستحق الرد عليها. ليس لأنها غير مؤثرة وهو أمر مؤكد، بل لأنها تستهدف بشرا قد يكونون من صنع الأوهام ولا وجود لهم على أرض الواقع. ثم أن دولة مثل العراق، كل مؤسساتها مخترقة يمكن للمرء فيها أن يغير أسمه وكنيته ومكان وزمن ولادته ويحصل على أوراق ثبوتية جديدة بسرعة قياسية. ليس ذلك ما يجهله الأميركان الذين أشرفوا بأنفسهم على بناء تلك الدولة الجديدة بعد غزو عام 2003.
ذلك التصرف الأميركي الذي ينطوي على قدر مفضوح من العبث لابد أن يعيدنا إلى مبدأ التسوية بين الطرفين الأميركي والإيراني في العراق. وهي تسوية تبدو ظاهريا على شيء من الغموض، ذلك لأن الولايات المتحدة تظهر فيها كما لو أنها الطرف الذي خسر حربه في العراق وسعى الى التسليم بالهيمنة الإيرانية غطاء لهزيمته. وهو ما لا يقره العقل ولا تؤكده الوقائع. فالسفارة الأميركية في بغداد التي تكاد أن تكون أكبر مؤسسة دبلوماسية أميركية في العالم لا تزال على صلة خفية بالمشهد السياسي وإن كانت لها مهمات هي الأكثر خطورة في إدارة ملفات أخرى لا تسقط عليها العين مباشرة. ما يهم الولايات المتحدة وكان جزءا من مشروعها لإحتلال العراق هو في موقع محصن، لا إيران بميليشياتها ولا الحكومة العراقية بمؤسستها يمكنهما الوصول إليه أو حتى الاقتراب منه.
ليست التسوية الأميركية الإيرانية إلا عنوانا لمشروع تعاون في العراق يتخطى حدود الخلافات بين الدولتين. فكما هو معروف. تختلف إيران مع الولايات المتحدة في كل شيء إلا في المسألة العراقية. هناك إتفاق منهجي مدروس على إخراج تلك الدولة من التاريخ المعاصر واعتبارها حديقة يتنزه فيها الطرفان إذا أرادا وأيضا يصبان فيها نفاياتهما. وليس الحشد الشعبي سوى واحدة من نفايات الحرس الثوري الإيراني. وحين تصدر الخزانة الأميركية قرارات بفرض عقوبات على زعماء في ذلك الحشد فإنها تعرف جيدا أنها تطلق نكتة، من أجل أن تُضحك الولي الفقيه. لقد تعاون الطرفان في خلق دولة وهمية انتحلت اسم العراق وصارا يقيمان فيها حكومات، هي في حقيقتها مجرد واجهات لواحد من أكبر مشاريع الفساد وأشدها خطورة على المستوى الإنساني.
كان الإحتلال الأميركي مريحا لإيران. ذلك لأنه خلصها من عدوها صدام حسين ومن العراقيين بطريقة أو بأخرى وكانت الهيمنة الإيرانية مريحة للولايات المتحدة. ذلك لأنها خلصتها من صداع إدارة بلد محتل ووضعت بين يديها ثرواته. وهكذا تحرص الولايات المتحدة على وجود المقاومة الإسلامية في العراق من خلال اعترافها بشخصيات زعمائها الوهميين وفي المقابل تحرص إيران على ترويض كل فكرة تدعو إلى تزع سلاح ميليشياتها من خلال الاستمرار في التصدي لأميركا التي كانت في الماضي شيطانا أكبر.