مقالات

القيم.. حقائق دينية أم حاجات اجتماعية؟

أمل مبروك
شغلت مسألة «القيم» مساحة عريضة من بحث المفكرين والمهتمين بالجوانب الإنسانية والاجتماعية عبر التاريخ، فهى انعكاس للأسلوب الذى يفكر به الأفراد فى ثقافة معينة، وفى فترة زمنية معينة؛ كما أنها تمثل نظامًا معقدًا يتضمن أحكامًا تقويمية إيجابية أو سلبية- مقبولة أو مرفوضة- نحو الأشياء أو الأفعال أو حتى نحو الأشخاص. ومن ثمَّ تعكس «القيم» أهداف الإنسان واهتماماته الذاتية، كما تعكس حاجات النظام الاجتماعى والثقافى الذى يعيش فيه. وإذا ما حاولنا أن نفرق بين الإنسان وسائر العالم فى كلمة واحدة، فلن نجد سوى القيم. فالإنسان لا يواجه العالم بوصفه موضوعًا مستقلًا محايدًا، بل العالم القائم هو وجود بالنسبة إليه، لا يتصل به إلا من جهة ما يعنيه منه، ولا يعرف منه إلا ما يُترجم إلى لغته. وما يغزوه الإنسان من العالم مزودًا بالثقافة، بل إن الثقافة هى الوجه الإنسانى من العالم. وتُصاغ ثقافة الإنسان من مجموع جوانب فاعليته على نحو ما يتضح من فلسفته ودينه وفنه وعلمه، ومن قبل ذلك، فى لغته وأساطيره وسحره؛ فهى القيم والمثل السائدة فى المجتمع. والقيم هى طابع وجود الإنسان وقوام بنيته، وبالتالى هى اللغة التى يفهم بها العالم؛ كما أنها تتجاوز ما هو كائن لتتطلع إلى ما ينبغى أن يكون. وتفترض القيم أن ثمة ما يجب رفضه وتجاوزه فى الوضع الراهن، ويتضمن هذا خروجًا على الماضى والحاضر مضيًا إلى المستقبل. فإذا كان ثمة خطر يهدد عالم الإنسان وحياته، وأزمة تكاد تخنق وجوده، فإنها لا تُحل بمزيد من التطور فى العلم والتكنولوجيا؛ لأن هذا التطور نفسه يدخل ضمن أسباب الأزمة، كما لا تُحل بمواقف سياسية معينة، لأنها أزمة تتصل بمعنى الحياة الإنسانية ذاتها. ومن ثم فهى تنشد من «الفلسفة» أن تقدم عونًا كبيرًا فى حل هذه الأزمة. فالفلسفة برفضها التسليم بوجود حدود وضعها لها العلم، لا تستطيع أن تعبرها فى بحثها عن «المعنى والقيمة فى الحياة»، هى التى يمكن أن تتعهد بصقل نوع من التكامل لكل جوانب الوجود والحياة. وهذا الالتزام الفلسفى لا يقف إلا على قاعدة من القيم. وكذلك الدين، لما يحمله من قيم تفوق القيم جميعًا، لا يقوم على أساس وهمي، ولا على عدد من الأفكار الخاطئة التى تم تكوينها فى عصور طفولة الإنسانية، وإنما يقوم على أكثر الأسس صلابة فى وجود الإنسان؛ إنه الوعى الباطنى بقيمة الحقيقة. ولا شك، فإن ما يُكون صميم «الدين» هو الشعور بالانسجام الباطن العميق، شعور بالسلام والراحة والسعادة، شعور بأن كل شيء يسير على ما يرام فى داخلنا وفى العالم الخارجى أيضًا؛ هذا الشعور ينطوى على الإحساس بمشاركة قدرة أعظم من قدرتنا، والرغبة فى التعاون مع تلك القدرة فى تحقيق أعمال المحبة والتوافق والسلام. هذا كله يتحقق عن طريق «الخبرة الدينية» التى تقودنا إلى الشعور بقيمة الحقيقة الإلهية العليا. من هذا المنطلق حدد «ماكس موللر» Max Muller (١٨٢٣ –١٩٠٠) الدين بأنه الإحساس باللامتناهي، أو هو السعى نحو تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه، إنه التطلع إلى اللامتناهي؛ بمعنى أن «الدين» هو الوعى المباشر بالوجود الكوني، هو الحياة فى الطبيعة اللانهائية للكل فى الواحد والواحد فى الكل (أى فى الله). أما «وايتهد» Whitehead (١٨٦١ – ١٩٤٧)؛ فقد عبر أصدق تعبير عن الخبرة الدينية بقوله: «الدين عيان لشيء يقوم فيما وراء المجرى العابر للأشياء المباشرة، وخلف هذا المجرى، أو فى باطنه، شيء هو بمثابة إمكانية بعيدة، ولكنه فى الوقت نفسه أعظم الحقائق الراهنة؛ شيء يخلع معنى على كل ما من شأنه أن ينقضى أو يزول، ولكنه مع ذلك يستعصى عن كل فهم، شيء يُعد امتلاكه بمثابة الخير الأقصى، ولكنه فى الآن عينه عصى بعيد المنال؛ شيء هو المثل الأعلى النهائي، ولكنه فى الوقت نفسه مطلب لا رجاء فيه». إن كلمات «وايتهد» تعبر عن حدس مباشر وتنبع من خبرة دينية خاصة، هذه الخبرة هى إحساس متأصل فى أعماق الإنسان، بحيث تصبح محاولة انتزاعه، محاولة يائسة بقدر ما هى عقيمة. هذا الإحساس يكمن فى أعمق أعماق كل قلب بشري؛ بل هو يدخل فى صميم ماهيته البشرية. ويمكن القول، إن إدراك الحقيقة التى ترى أن نظام العالم- كما رأى «وايتهد»- وعمق حقيقته وقيمته، فى مجموعه وأجزائه؛ ومتعة الحياة وسلامتها والتغلب على الشر، هى أمور مرتبطة معًا ولا تأتى عرضًا. وبسبب هذه الحقيقة يكشف الكون عن نشاط خلاق ذى حرية لا نهاية لها، وعن مملكة من الأشكال ذات إمكانيات لا متناهية؛ ولكن هذا النشاط الخلاق، وهذه الأشكال عاجزة كلها عن إنجاز الواقعية بمعزل عن الانسجام المثالي، الذى هو «الله». ومن هنا جاء اختيارنا لموضوع «مبحث القيم»، لنبين أهمية «القيم» فى مجالى الدين والفلسفة ودورها فى حياة الإنسان، خاصة ونحن نحيا وسط عالم مضطرب مليء بالأزمات والأحداث والثورات، هذه الأزمات جعلت هناك عدم ثقة وعدم إيمان بالقيم الراهنة؛ بل بتفاهة وانعدام لكل قيمة. ويجد الإنسان- فى خاتمة المطاف- أن هناك طابعًا وهميًا للعالم هو الذى يعنى فى النهاية تفاهة العالم أو عدم جدواه، بحيث يرى فى انقضاء الأشياء أو عدم ثباتها العامل الأساسى الذى يسلبها قيمتها.

admin