حازم صاغية
ذاكرة المحرقة تقف اليوم، في الزمن الترامبيّ، في مواجهة أنماط اليمين القوميّ والشعبويّ في بلدان عدّة، بما فيها إسرائيل نفسها لم تُعدّ إسرائيل استقبالاً لائقاً لذكرى المحرقة اليهوديّة (الهولوكوست) في أوروبا. فقبل أسابيع على حلول تلك الذكرى، أقدمت حكومة تلّ أبيب على ترحيل أعداد من اليمنيّين والأثيوبيّين وسواهم من الأفارقة الذين وُصفت إقامتهم بأنّها غير شرعيّة. وإذ أثار هذا الإجراء قدراً من التوتّر مع حكومات أفريقيّة، فقد استنهض بعضَ الإسرائيليّين الذين اعتبروا سلوك حكومتهم عنصريّاً. أبعد من هذا، رأى هؤلاء أنّ هذا السلوك مسيء خصوصاً لذاكرة المحرقة وما رافقها من إقفال بعض دول الغرب أبوابها في وجوه يهود هاربين من الجحيم النازيّ. وقد ظهر في هذه البيئة المعترضة من يعلن استعداده لإسكان هؤلاء المرحّلين في بيوتهم، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك “مخالفة قانونيّة” أم لا.
والحال أنّ التيّار اليمينيّ الذي يسيطر على الحكومة الإسرائيليّة اليوم إنّما اشتُهر باستدعاء ذاكرة المحرقة بسبب ولا سبب، وباستخدامها، منذ مناحيم بيغن على الأقلّ، لأغراض سياسيّة مباشرة وأحياناً دنيئة. وهذا ما أطلق صوتاً نقديّاً بين الإسرائيليّين واليهود الليبراليّين واليساريّين يؤكّد على إساءة هؤلاء إلى المحرقة نفسها والعمل على “ترخيصها من خلال ابتزاز الخصوم بها”.
ولئن ربط البعض بين المواقف الإسرائيليّة الأخيرة حيال أصحاب الإقامات “غير الشرعيّة” والتوجّهات الترامبيّة حيال اللاجئين والمهاجرين، فقد جاء الربط متجانساً مع تقارب غير مسبوق بين واشنطن وتلّ أبيب، ترجمه قرار دونالد ترامب اعتبار القدس عاصمة للدولة العبريّة، ثمّ زيارة نائبه مايك بنس لها، وما شابها من استعراضات دينيّة مبالغ فيها، تكاد تكون صوفيّة.
ما يتعدّى ذلك أنّ هذا التحالف بات يشمل بعض البيئة الترامبيّة المعروفة تقليديّاً بلاساميّتها. ففي هذا المحيط نفسه، وهو لا يبعد عن الرئيس شخصيّاً، تتمدّد الكراهية القوميّة إلى سائر الآخرين المختلفين، بمن فيهم اليهود. وغنيّ عن القول إنّ العداء لليهود هو من المواقف الأصليّة الثابتة لدى اليمين الأمريكيّ الذي لا يتردّد، في الوقت عينه، في إبداء الحماسة لتأييد إسرائيل!
في المقابل، صوّت البرلمان البولنديّ لصالح الدفاع عن “شرف” “الأمّة” في مواجهة اتّهامها بالتواطؤ مع النازيّين في تنفيذ المحرقة. ذاك أنّ من يشير أدنى إشارة إلى تواطؤ كهذا قد يجد نفسه (في حال مصادقة مجلس الشيوخ) في السجن لمدّة ثلاث سنوات.
والحقّ أنّ اليمين القوميّ والشعبويّ الحاكم منذ 2015 في بولندا يتبع سياسة متجانسة في جمعها بين العداء للهجرة واللجوء، والحدّ من حرّيّات الإعلام والتجمّع والنقد ومن استقلاليّة القضاء، والتحريض ضدّ الاتّحاد الأوروبيّ والعضويّة فيه. وهنا، تندرج اللاساميّة بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من هذا السياق الانعزاليّ.
فـ “الأمّة” التي قضى من أبنائها ثلاثة ملايين يهوديّ بولنديّ، بعضهم قُتلوا على أيدي بولنديّين، لا تريد أن تواجه تاريخها ومسؤوليّتها، حرصاً منها على نصاعة “شرفها”. وهذا بالضبط هو النهج الذي يتّبعه بلد كالنمسا (التي بات يحكمها أيضاً ائتلاف يمينيّ شعبويّ متطرّف)، فيما يخالفه بلد كألمانيا التي أجمعت قواها السياسيّة الأعرض على مراجعة تاريخها ومطاردة “الوحش الذي يقيم في داخلنا”.
وقصارى القول إنّ ذاكرة المحرقة تقف اليوم، في الزمن الترامبيّ، في مواجهة أنماط اليمين القوميّ والشعبويّ في بلدان عدّة، بما فيها إسرائيل نفسها. وهو الأمر الذي يؤسّس مبدئيّاً لنظرة عربيّة تجد في تلك المأساة سلاحاً يواجه سياسات التطرّف الإسرائيليّة، وكلّ سياسة متطرّفة قوميّاً وشعبويّاً.