صبحي ساله يي
بعد تأسيس الدولة العراقية عام (1921)، إنخرط المسيحيون في الحركات السياسية المعاصرة والحركة التحررية العراقية، كما شاركوا في كوردستان بفاعلية متميّزة في نضالات وبطولات الحركات التحررية الكوردية، ومنذ ستينيات القرن المنصرم، أي بعد إنطلاق ثورة أيلول التحررية، بقيادة الخالد مصطفى البارزاني، أصبحوا جزءاً من القضية الكوردستانية، وتعرضوا في قراهم الى الإضطهاد وظلم السلطات العراقية وأجهزتها الأمنية والترحيل والتهجير، وفي بقية مناطق العراق تعرضوا في زمن الدكتاتورية والسلطات البعثية الى الإضطهاد القومي والديني وسياسات التعريب، لذلك كان واقعهم كواقع غالبية العراقيين، مريراً ولم تتوقف حركة هجرتهم الى شتى دول العالم.
أما بعد انتفاضة آذار (1991) في كوردستان، فقد تنفس المسيحيون الصعداء، حيث تم الغاء التمايزات وترسيخ ملامح المساواة والتعايش الديني والقومي وضمان الحقوق الانسانية والتأكيد على أن العيش المشترك وفق خطوات محسوبة واستدلالات منطقية وأفكار متجانسة تضمن التطور والتنظيم ووحدة الوعي والاداء وتحقيق الأهداف المتكاملة، كما إكتسبوا الكثير من حقوقهم القانونية من خلال مشاركتهم الفعلية في السلطات الإدارية والسياسية والتشريعية، وفق سياسة توافقية مع الاحزاب السياسية الكوردستانية الأخرى المشاركة في برلمان وحكومة إقليم كوردستان والمؤسسات الكوردستانية.
بعدإسقاط البعث وتحرير العراق في 2003، تفاءل المسيحيون بالعراق الديمقراطي الجديد، لكن هذا التفاؤل لم يستمر طويلاً، لأن الاداء الحكومي السيئ الذي أفسد القيم وأشاع الفوضى والفساد، عطل لغة الكلام ومنطق العقل. وفي ظل غياب سلطة القانون وإنفلات الأمن وإستشراء دورالمليشيات، أصبح إستهداف المسيحيين المسالمين الآمنين واجباً مقدساً، وهدفاً مباشراً لأعمال الإبتزاز والتطهير والإبادة والاستئصال، فشهدوا أوضاعاً مأساوية وإضطهادات عنيفة ومتتالية على أيدي جماعات مسلحة مجهولة ومعلومة الهوية، وتعرضوا في بغداد والموصل ومدن الوسط والجنوب الى حملات إستهداف شرسة وخبيثة، تجسدت في أعمال القتل والتهجير وحرق وتفجير كنائسهم وإغتيال طلابهم ورموزهم الدينية والفكرية. كما قامت الجماعات الخارجة عن القانون بالاستيلاء على دور وأراض المسيحيين من خلال التهديد والوعيد أو بالتنسيق مع بعض الموظفين في دوائر التسجيل العقاري وباستخدام وثائق مزورة. هذه الأمور أدت الى تناقص عددهم الذي كان يقارب المليون ونصف المليون الى ما يقارب 550 ألفا.
أما عقب سيطرة الدواعش على مدينة الموصل، في حزيران2014، الذي يعتبر أسوأ عام بالنسبة للمسيحيين، فقد تم تخييرهم بين: إعتناق الإسلام، أو دفع الجزية، أو الخروج من مدينتهم ومنازلهم بملابسهم من دون أية أمتعة. وأعلن داعش، أن منازلهم تعود ملكيتها الى الدولة الإسلامية. إنصاع المسيحيون في الموصل وأطرافها لأوامر داعش متوجهين نحو أربيل ودهوك، وفي نقاط تالفتيش التابعة لداعش، كانوا يتعرضون الى السلب، ونهب جميع مقتنايتهم من الأموال والذهب وحتى أجهزة الهاتف، كما سحب منهم جوازات السفر والبطاقات الشخصية وتم الإستيلاء على سياراتهم الخاصة. وفي مدينة الموصل وضواحيها تم تدمير كنائسهم وكذلك الأديرة، وما نهب منها من وثائق وموجودات لا تقدر بثمن. ويمكن القول أن الذي كتب حتى الآن من قبل الكتاب المسلمين والمسيحيين بشأن بشاعة الجرائم الشريرة المرتكبة ضدهم، مجرد ذر للرماد في العيون، مقارنة بحجم الكوارث التي تعرضوا لها والدوافع الحقيقية لارتكابها، وبالدم الطاهر الذي سال من أجساد الضحايا، لذلك لابد من النهوض بالواقع المسيحي لأنه مسألة حضارية وأنسانية قبل أن تكون سياسية أو دينية أو أجتماعية.
في المقابل قامت حكومة إقليم كوردستان والتي تفتخر بحماية التنوع الديني والقومي في كوردستان، بتكيثف جهودها وإمكانياتها لمساعدة هؤلاء النازحين. حيث دعا السيد نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة الإقليم، أهالي كوردستان بشكل عام ومحبي الإنسانية في مدينتي أربيل ودهوك إلى تقديم كل ما بوسعهم لمساعدات لتلك العوائل النازحة. وأكد لهم السيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كوردستان، أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، إنهم ليسوا ضيوفأ أو نازحين، إنهم أصحاب الأرض، وقال لهم: ( إما نموت على هذه الأرض أو نعيش عليها بكرامة).
رداً على تلك المواقف، نلاحظ اليوم أن الكثير من المسيحيين أعلنوا عن مواقفهم المؤيدة بقوة للإستفتاء، المزمع إجرائه في 25 من هذا الشهر، ويعتبرونه فرحة لهم وللكورد ولجميع المكونات الأخرى، لأنهم على يقين بأن الإستفتاء سيشكل منعطفاً سياسياً ومجتمعياً تاريخياً في شكل النظام السياسي وهوية الدولة الجديدة، وفي المستقبل السياسي لقوميات كوردستان. وبأنه بعد الإستقلال سيتعزز أنتمائهم الى كوردستان كي يساهموا بروح الشراكة في بناءه، وسينعمون بالأمان والحرية بين أهلهم وأبناء وطنهم، وسينالون حقوقهم القومية والدينية والوطنية كاملة دون نقصان، وسيضمنون بأنهم مصانون وحقوقهم مصانة جنباً الى جنب مع اخوتهم الكورد والعرب والتركمان وغيرهم من القوميات والاديان في دولة تسودها المساواة والعدالة، ويكون عمودها الفقري المواطنة وسيادة القانون، كما سيشاركون في كتابة دستور كوردستان وصنع القرار السياسي في دولة تكون نواتها الفدرالية والديمقراطية والمدنية والحرية والمساواة والتعايش المشترك.