مقالات

المشروعان الإيراني والتركي في العراق

عبد الحسين شعبان

كاتب ومفكر عراقي

إذا كانت عوامل التنافس التاريخية بين إيران وتركيا قائمة ومستمرة، فإن العراق الساحة والمساحة التي ظلّ الفريقان يلعبان بها وينفّذان خططهما الواحد إزاء الآخر، يضاف إلى ذلك عامل أيديولوجي، مذهبي، ازداد اتساعاً وشمولاً منذ انتصار الثورة الإيرانية في 11 فبراير/شباط 1979، ونجاح انقلاب كنعان إيفرين في 12 سبتمبر/أيلول 1980، أي قبل الحرب العراقية الإيرانية بعشرة أيام فقط، وتعزز هذا العامل بعد فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات عام 2002.
“على الرغم من الاختلاف بين المشروع الإيراني والمشروع التركي، إزاء العراق، فإن هناك نوعاً من التفاهم غير المعلن للإبقاء على ما هو قائم أو المحافظة على الوضع الراهن”
كلٌ حسب أهدافه وأجنداته يريد الاستفادة من الوضع العراقي في السابق والحاضر، وعلى الرغم من الاختلاف الظاهر والصراع التاريخي والاستقطاب الحاد بين المشروع الإيراني والمشروع التركي، لا سيما إزاء العراق، فإن هناك نوعاً من التفاهم وإن بدا غير معلن يريد الإبقاء على ما هو قائم أو المحافظة على الوضع الراهن Status que، سواء من خلال العلاقات الثنائية بين البلدين والاتفاقيات الجيوسياسية إستراتيجية التي تربطهما منذ قرون، والتي أبعدتهما عن اندلاع حروب أو نزاعات مسلحة بينهما، خصوصاً على أراضيهما.
لعلّ بفضل هذا التوافق تمكّن البلدان من أن يكونا فاعلين رئيسين في الوضع الإقليمي في ظل أحداث كبرى وتطورات هائلة شهدتها المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، خلال العقود الثلاثة ونيّف الماضية وآخرها ما شهده العالم العربي من انقلاب كبير تمثل في تفتح بدايات الربيع العربي، الذي حاول كل من البلدين الاستفادة منه واستثماره لصالح مشروعه الأيديولوجي.
إن مناسبة الحديث هذا كانت ورشة عمل نظمها مركز “راسام” للأبحاث والدراسات في إسطنبول وحضرها عدد من الاختصاصيين والأكاديميين والباحثين، وشهدت حوارات جادة وهادفة، وإنْ غاب عنها باحثون أكراد، كما لم تشارك المرأة في أعمال الورشة المهمة.
وإذا كانت مسألة المرأة لم تطرح على بساط البحث، فإن الموضوع الكردي حظي باهتمام كبير، لا سيما مستقبل النظام الدستوري في العراق، وهل هو فيدرالي أم كونفدرالي بموجب دستور عام 2005؟ وهل يمكن أن يتطوّر إلى إنشاء دولة كردية مستقلة؟ وكيف السبيل إلى ذلك وما مدى تأثيره على إيران وتركيا وسوريا؟ وقد تبلور اقتراح سبق للباحث أن دعا إليه في أكثر من محفل وهو ضرورة الحوار بين المثقفين من الأمم الأربعة التركية والفارسية والعربية والكردية.
وإذا كان الجميع لديهم دولاً (فكرة الأمة الدولة، في تركيا وإيران) وأن الأمة العربية مجزأة إلى 22 كيانا ودولة، فإن الأمة الكردية موزعة على الأمم الثلاث دون أن يكون لها دولة، وهو الموضوع الذي قد يكون مطروحاً على بساط البحث خلال العقد أو العقدين القادمين، الأمر الذي يستوجب حواراً جاداً ومسؤولاً ومن موقع الصداقة والمصالح المتبادلة والمشترك الإنساني والتفاعل الثقافي والتواصل الحضاري.
كما دارت نقاشات جادة حول موضوع الطائفية السياسية، وهل هي نتاج الاحتلال أم أن لها جذوراً في الوضع السياسي القائم منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921؟ وذلك من خلال قانون الجنسية الأول الذي صدر برقم 42 لسنة 1924 والذي اعتبر الجنسية لوحدها غير كافية، بل اشترط الحصول على شهادة الجنسية العراقية، وهي حالة غريبة وشاذة قياساً للغالبية الساحقة من قوانين الجنسية في العالم.
كما وضع درجة (أ) لرعايا الدولة العثمانية و(ب) لغيرهم حتى وإن ولدوا في العراق هم وآباؤهم وأجدادهم وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطناً سواه، وكان يمكن اعتبار الجميع قبل تأسيس الدولة العراقية مواطنين بالتأسيس حسب اتفاقية لوزان لعام 1923، لولا السياسة البريطانية التي حاولت زرع هذه البذرة التمييزية في موضوع الجنسية وما تركته من انعكاسات لاحقاً، والغريب أن قانون الجنسية صدر قبل صدور الدستور العراقي الأول (القانون الأساسي عام 1925).
وقد شهد العراق حملات تهجير عديدة كان أكبرها وأخطرها عشية وخلال الحرب العراقية الإيرانية، لا سيما طبقاً للقرار 666 الصادر في 7 أيار/مايو 1980 والذي قرر سحب الجنسية لاعتبارات الولاء السياسي، فضلاً عن الأصول التاريخية، دون مراعاة لمبدأ الولادة والأرض، وهما المبدآن اللذان يحددان منح الجنسية، حسب القوانين الدولية والمبادئ الدستورية العامة.
وعندما جاء الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 كرّس المشروع الطائفي والمذهبي، من خلال تقسيمه لمجلس الحكم الانتقالي حين أعطى الشيعة 13 مقعداً وللسنة خمسة مقاعد وخمسة مقاعد للأكراد ومقعدا واحدا للتركمان ومقعدا واحدا للكلدو آشوريين، ليصبح عدد أعضاء المجلس 25، مؤسساً لما سمّي بالمحاصصة المذهبية الطائفية الإثنية، تلك التي يطلق عليها بصورة تلطيفية أحياناً “المشاركة”.
“عندما جاء الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 كرّس المشروع الطائفي والمذهبي، من خلال تقسيمه مجلس الحكم الانتقالي على أساس المحاصصة المذهبية الطائفية الإثنية”
كما شهد العراق، ولا سيما خلال عام 2006، تطهيرا طائفيا، وخصوصاً بعد تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، شمل مئات الآلاف إلى دول الجوار، فضلاً عن النزوح الداخلي، خصوصاً بعد عمليات القتل على الهوية.
وقد تم اقتراح سبق للباحث أن دعا إليه ونشره في كتابه “جدل الهويات في العراق”، ونظمت فعاليات وأنشطة حقوقية وثقافية لمناقشته، وهو مشروع تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة، إذ لم يكتف المشروع بالتحريم باعتبار الطائفية جريمة بحق الوطن والشعب، بل بحث في السبيل لتعزيز ما يقابلها وهو نقيضها الذي يقوم على تعزيز فكرة المواطنة القائمة على الحرية والمساواة والعدل والمشاركة.
وعلى الرغم من الانسحاب الأميركي من العراق في نهاية عام 2011، فإن ذيول الاحتلال لا تزال باقية متمثلة في أعداد كبيرة من العسكريين الأميركيين بحجّة التدريب والتأهيل تضمّهم أكبر سفارة أميركية في العالم، يبلغ عدد منتسبيها نحو 16 ألف موظف بصفة دائمة أو مؤقتة، من المدنيين والعسكريين، مع استمرار وجود الشركات الأمنية المتعاقدة مع السفارة الأميركية ووزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” وغيرها.
ويقابل الوجود الأميركي في العراق نفوذ إيراني سياسي وأمني واستخباري لوجستي وعلاقات واسعة مع القوى السياسية الحاكمة فضلاً عن أذرع اقتصادية ومالية ودينية ومذهبية، الأمر الذي يجعل دورها مؤثراً في العراق على نحو كبير، ولا سيما في أوساط الحكومة العراقية، في حين لتركيا نفوذ لدى القائمة العراقية وقد سعت لتمديد رقعة هذا النفوذ كردياً من خلال مشاريع اقتصادية وتجارية في كردستان العراق، دون أن ننسى توغّل القوات التركية في الأراضي العراقية بين فترة وأخرى وقصفها لمواقع حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) في جبل قنديل وغيره من مناطق كردستان، وهو ما تفعله إيران من جهتها أيضاً، وتمتلك تركيا علاقات متميّزة مع تركمان العراق وقد أخذت على عاتقها الدفاع عنهم تاريخياً، كما أن علاقتها مع المجموعات السنّية قد تعززت، على الرغم من شكوى البعض من عدم استقبالها من يمثل المقاومة.
إذا كانت أنقرة ترفض النموذج العراقي الآخذ بتوسيع نطاق الفيدرالية الكردية إلى فيدراليات حسب الأقاليم والمحافظات ووفقاً للدستور، وتدعو للتمسك بوحدة العراق، فهل كان موقفها من الحرب الأميركية على العراق كافياً لكي تتدخل بالصراع السياسي بين السلطة ومعارضتها، الأمر الذي ساءت معه العلاقات العراقية التركية، خصوصاً بعد موقفها بشأن تصدير النفط من كردستان العراق عبر أراضيها أو كذلك استضافة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي.
لعل التشظي العراقي وغياب الوحدة الوطنية والتعكّز والارتكاز على هويات فرعية على حساب الهوية الوطنية العراقية العامة، جعل كل من إيران وتركيا تتعاملان مع العراق بالمفرد (المفرّق) وليس بالجملة أو ككل واحد، فإيران تتعامل مع الأحزاب والجماعات الإسلامية الشيعية، بل وتعتبر بعضها تابعاً لها ومن مخرجاتها، وتركيا تتعامل مع بعض السنّة باعتبارهم امتداداً لإمبراطورية حاضرة في الأذهان حتى وإن كانت غائبة، أو جزءا من مشروع سياسي أكبر.
“أثبتت تجارب التاريخ البعيد والقريب أنه كلما كان العراق قوياً وموحّداً استطاع أن يلجم المشروعين الإيراني والتركي من التمدد في العراق، ويعلي من شأن المصالح المشتركة”
إيران وتركيا يهمّهما الحصول على نفط العراق بوسائل مشروعة أو غير مشروعة وقد نشطت عمليات تهريب تتهم الحكومة العراقية إقليم كردستان بالتغطية عليها، مثلما هناك نشاط واسع للاتجار بالبشر يجد من العراق ممراً ومقرًّا له، وتبقى مشاكل المياه بين العراق وتركيا بسبب مشروع الغاب التركي وبناء سدود عملاقة تلك التي أثّرت على حوضي نهري دجلة والفرات وعلى منسوب ما يصل إلى العراق، وكذلك تبرز مشكلة المياه مع إيران كجزء من مخلّفات حرب الخليج وموضوع شط العرب وخط الثالويك، وأيضاً بسبب نهر كارون الذي جرى استغلاله إيرانياً بما يتعارض مع القوانين الدولية، خصوصاً شح وصول المياه العذبة إلى شط العرب، الأمر الذي أدى إلى زيادة نسبة الملوحة وصعوبة الري والزراعة في مناطق أبي الخصيب والسيبة والفاو في محافظة البصرة وزيادة الجفاف الذي أخذ يضرب جنوب العراق.
لكي يتوازن المشروع الإيراني والمشروع التركي في العراق ومع دول المنطقة، لا بدّ من وجود مشروع عراقي موحد وجامع، مع احترام الخصوصيات والهويات الفرعية وتأمين حقوقها كاملة في إطار دولة فيدرالية أو لا مركزية، لكنها موحدة ولديها أجندة موحدة.
وقد أثبتت تجارب التاريخ البعيد والقريب أنه كلما كان العراق قوياً وموحّداً استطاع أن يلجم المشروعين الإيراني والتركي من التمدد في العراق، ويعلي من شأن المصالح المشتركة والأهداف الموحدة والعلاقات الطبيعية السلمية، لا سيما وأن ما يربط إيران وتركيا بالعراق الكثير: دينياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وتاريخياً.