د. أحمد موفق زيدان
لم تُفلح “الوساطات الدولية” حتى هذه اللحظة، منذ فلسطين وكشمير، ومرورًا بأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا وغيرها، بحل أي قضية بشكلٍ عادلٍ ولو نسبيّ، ربما باستثناء ما جرى في البوسنة والهرسك، التي كانت النشاذ الذي يؤكد القاعدة ولكن حتى تلك لها صلة بالجغرافيا والقرب من أوروبا، مع حرص الأخيرة على عدم نقل برميل بارود الاقتتال العرقي والديني إلى قلبها. بينما لم نلمس على مدى عقود نجاح “الوساطات الدولية” في حل وتسوية أي قضية بشكلٍ عادلٍ أو حتى شبه عادل، وإنما أثبتت أزمة بعد أخرى أنها مكانٌ لإدارة الأزمات وليس لحلها، وبرهنت معه أن الأزمة تلد أزمة، وبالتالي كانت النتيجة فقدان ثقة الشعوب بهذه الوساطات ولجوء بعض التنظيمات بحاضنة اجتماعية قوية إلى الخيار العنفيّ الدمويّ، والذي لا تزال نافورته الدموية تواصل نزيفها ما دامت أسباب وجذور الظلم قائمة وموجودة.. لنستذكر قرارات الأمم المتحدة التي أصدرتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بما يتعلق بقضيتي فلسطين وكشمير، وهما القضيتان اللتان تتقاربان تاريخيًّا كون كليهما بدأتا عام 1948، ومع هذا لم يُطبق أي من هذه القرارات التي كانت في أساسها مجحفة حتى في حق أهلها، ومع هذا لم تطبق، واستمر التفاوض وتواصلت الوساطات لعقود، حتى أعلنت عن التوقف التام، بعد أن ابتلع المعتديان “الصهيوني” و”الهندي” الجغرافيا تمامًا وسط تبدل خطير بالديمغرافيا، فلم يبق ما يُتفاوض عليه لا جغرافيًّا ولا ديمغرافيًّا، فتم تفريغ “مفاوضات أوسلو” من مضمونها، وتقاعد صائب عريقات كما تقاعدت معه حنان عشراوي، وبانتظار أن يتقاعد بعدهما كل الوسطاء والمفاوضين.. سارت القضية الأفغانية بنفس الطريقة مفاوضات ثم مفاوضات لأجل المفاوضات، وويل للضعيف إن تفاوض مع القوي، لكن الفصائل الأفغانية أدركت عقم هذه المفاوضات فشنت هجومها على كابول وقلبت طاولة مفاوضات الوسيط الأممي يومها بينون سيفان عام 1992 ومن يومها أسست مفاوضات الأمم المتحدة لبركان من الظلم وسط النفسية الأفغانية، انعكست لاحقًا على أحزاب وفصائل لا يزال العالم يدفع ثمن لامبالاته بحقها، تمامًا كما يدفع ثمن تخليه عنها يوم شاركها هزيمة العدو “السوفياتيّ الشيوعيّ”، ثم تخلى عنها.. تشكَّلت بعدها حركة “طالبان” الأفغانية ثم تنظيم “القاعدة” وبعدها تنظيم “الدولة” وغيرها من الفصائل فكان من المفترض أن يكون نذير شؤم لكل خبير وذي صلة ومهموم بالأمن والسلم العالميين، وشاهد العالم كله هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، نتيجة عدم التعاطي مع القضية الأفغانية بجدية وسلمية بعد رحيل السوفييت، ونفس الأمر يتكرر اليوم في العراق، حيث أعلن الجميع عن نصرهم على تنظيم “الدولة”، بينما مبررات ظهوره لا تزال أقوى من السابق، حيث خلَّف بعده ما عُرف بـ”الذئاب المنفردة” وخطره على أوروبا هذه المرة، وسط خراب مدن تاريخية وحواضر مهمة ستفرز جيلًا أخطر بمرات من جيل “القاعدة” وتنظيم “الدولة” وغيرهما. لقد سبق أن كابر العالم كعادته على نفسه وواصل عقم وساطاته في العراق حتى وصل الأمر إلى أن انفجر على شكل احتلال أمريكي، ثم فرض وصاية إيرانية بدعم أمريكي؛ ليقود ذلك كله إلى تشكيل منظمات عنفية لم تجد الحاضنة بُدًَا من التلطي وراءه، بعد أن رأت عدائية الدولة الطائفية في العراق لها. ورأت معه دعم الاحتلال الأمريكي لهذه الحكومة الطائفية ضد الأغلبية السنية العراقية، ولا يزال البركان العراقي يُلقي بحُممه نتيجة انهيار تلك الوساطات الدولية بعيدًا عن الجغرافيا العراقية ليصل بحُممه إلى سوريا وحتى أوروبا. في سوريا بدت “الوساطة الدولية” لصالح العصابة الطائفية بأقبح مناظرها، وكان الوسطاء الدوليون وكأنهم يفاوضون عن العصابة نفسها، ومع كل التراجعات والتنازلات التي قدمتها المعارضة السورية إلاّ أن الوسيط الدولي ستيفان ديميستورا الذي هو أشبه ما يكون بـ بريمر العراق، لم يجد إلاّ أن يقول لهذه المعارضة لقد فقدت دعمًا دوليًّا، ويُسلمها بعده للاحتلال الروسي ولـ”سوتشي” و”الأستانا” بعيدًا عن “جنيف” وعن أي تعهدات أممية سابقة. مرة أخرى يستطيع أن يهزم الوسيط الدولي والوساطات الدولية معه معارضات لا تمثل واقعًا شعبيًّا في ميادين المفاوضات، ولكن هذه الهزيمة ستكون لمنبتين عن الشعب وهمومه وثورته، ومعه سيتضاعف الغضب الشعبيّ الذي سيواصل مرجله بالغليان، بعد مقتل مليون سوري وتشريد 12 مليون آخرين، بالإضافة إلى حجم الدمار الرهيب للمدن العريقة التاريخية فيها، وحينها فقط لينتظر المجتمع الدولي براكين غضب جديدة لن يقدر على التعامل معها حينها ما دامت من جيل جديد قواعد لعبته لن تكون معروفة لأحد..