زهير ماجد
خلال هذا الشهر من العام 1958 أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا .. كانت طفولتنا في ذلك الوقت تشرب من معين المفاهيم العربية الجامعة، ويكاد أن يكون الزمن الذي ولى ولن يعود، لكنها تجربة مهمة وجديرة بأن تقرأ باستمرار، وأن تنتقد سلبا وإيجابا.
في ذلك اليوم الذي وقع فيه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قيام الوحدة مع الرئيس السوري المحترم جدا شكري القوتلي الذي تنازل بملء إرادته عن منصبه، كان الآلاف من اللبنانيين يتجهون إلى دمشق التي لا تبعد عن بيروت سوى مئة كيلومتر تقريبا، وكلهم فرح يشبه إحساس السوري والمصري تماما.
قبل قيامها بشهر تقريبا، كان الشاعر العربي السوري المعروف عمر أبو ريشة كما روى لي سفيرا لسوريا في الهند، وحين زار مع صديقه اللبناني كمال جنبلاط إحدى العرافات هناك، أخبرته أنه سيصبح سفيرا لدولة أكبر من دولته .. فكر أبو ريشة بما طرحته العرافة ولم يجد جوابا إلا عندما قامت الوحدة وتم تعيينه سفيرا لها، أي لدولتين بدلا من دولة.
واحد وستون عاما مرت على تلك الوحدة التي تم القضاء عليها وهي ما زالت في مهماتها الأولى، بل في عمرها الطفولي، أي ثلاث سنوات فقط .. ومثلما هزت الوحدة قلوب الملايين من العرب، اهتزوا ألما مما وصلت إليه، ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة؟ وماذا يعني أن يحدث الانفصال بهذه الطريقة وهذا الارتكاب المشين؟
إثر الانفصال كتب الكثير أن عبد الناصر استعجل أمرا يحتاج لممهدات مختلفة، وقد رأينا تريثه لاحقا، حينما طرحت وحدة ثلاثية (مصر وسوريا والعراق) وكيف أنه هدأ من الذهاب بعيدا دون التحضير المسبق والمعمق لهذه الوحدة، وكان يقرأ فيها خطورة مؤكدة سوف يستشعرها الغرب وبعض العرب، وسيكون التآمر عليها مضاعفا. لكن الوحدة لم تقم، إلا أنها تسببت كالعادة بإحساس عميق من الألم الشعبي العربي الذي راهن من جديد على العودة إلى حلمه القديم والأجمل.
كبر بنا العمر، ولم تعد هناك تجربة جميلة كما حصل بين سوريا ومصر .. وبدل أن نعيد إنتاج بعض الماضي، لا بل أن نحافظ على أقطارنا من أي خطر، وجدنا أنفسنا نتحدث عن مخاطر داهمة، أبرزها إعادة تقسيم بعض الأقطار (لبنان وسوريا والعراق وليبيا وربما غيرها) أي الاتجاه المعاكس لما كان من أمل باقٍ في النفوس وفي حكايات الزمان العربي الجميل.
أحتاج إلى الكتابة عن الممنوعات المفروضة على العرب الصفحات التي لا تنتهي .. من المؤسف أن العرب استسلموا لها فلم يقاوموا، بل ربما فرح البعض بقطره، رغم معرفته بما يتهدده وهو يقف وحده في مواجهة التحديات القومية الكبرى، وتعرضه لفكرة يعرفها أني أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
مؤسف أن تولد أجيال عربية تتطلع إلى بعضها من بعيد وقريب ولا تفعل ما يحلو لها من اشتهاء الاقتراب فيما بينها. ولهذا ارتفعت كلمة “أولا” عند كل قطر عربي، اخترق هذا الأول العقول والقلوب، على الرغم من معرفة المواطن العربي أنه أينما ذهب في الخريطة العربية فهو لا يشعر بالغربة وأنه ابن هذا العالم الكبير الذي نعرف خريطته عن ظهر قلب.