مقالات

باختصار : الوطن أجمل الأغنيات

 
 
زهير ماجد
 
كنت عائدا من برشلونة في إسبانيا بحرا بعدما كرهت دراسة الطب، حين نزلنا في الإسكندرية لعدة ساعات قبل أن نصل إلى بيروت .. في تلك المدينة المصرية الشهيرة ثمة حوانيت لبيع الهدايا، كان صوت المطربة شادية يصل من احداها وهي تغني “يا حبيبتي يا مصر” وحين وصلتها رأيت البائع يبكي، وحين سألته أشار إلى صورة معلقة في حانوته لجمال عبد الناصر الذي كان قد توفي لتوه، وكأنه يقول لي إنه يبكي قائده تأثرا بتلك الأغنية.
مثل سريان الدم تسري الأغنية الوطنية في جسد المرء وفي عقله .. أنها من قديم الزمان، فكانت مقدمات لشحن مشاعر المحاربين أثناء الحروب، بل كانت دائما سيدة الكلمة واللحن في اللحظات العصيبة، كما في تلك الحنونة، في تجليات الشعوب، وفي ارتباطها بقائدها ورموزها.
أحسب أن الأغنية الوطنية ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها .. اليوم نشيد مصر الوطني من أريحية سيد درويش، ومصر من أكثر أقطار العرب ارتباطا بها .. منذ سعد زغلول وما قبله، وصولا إلى العهد الملكي، وأعظمها ما عرفته المرحلة الناصرية، حيث تعتبر مرحلتها الغنائية تاريخا للتطورات السياسية والوطنية والقومية التي عرفتها مصر آنذاك. وما زلت أذكر، على سبيل المثال، تلك الهبة الغنائية التي سبقت هزيمة العام 1967، وكيف اعتبر الشعب المصري مثلا أغنية “راجعين بقوة السلاح” لأم كلثوم فألا سيئا، في الوقت الذي سبقها أغنيات قصيرة لعبد الحليم حافظ كانت بمثابة توجيه سياسي مثل أغنية “إنذار” أو لاحقا “اضرب” .. ثم كيف مهد عبد الحليم حافظ لأغنياته القصيرة المثيرة بكلماته السريعة ومعانيها كـ”أحلف بسماها وبترابها” أو “ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار” أو “خلي السلاح صاحي” .. في حين ترجمت أغنيات مختلفة مرحلة العبور في أكتوبر 73 كأغنية شادية “عبرنا الهزيمة يا مصر يا عظيمة” أو “عاش اللي قال للرجال عدوا القنال”.
يطفح أرشيف المطربة الكبيرة فيروز بأغنيات وطنية من صميم القضايا العربية كفلسطين بالدرجة الأولى، ويوم زارت الضفة الغربية قبيل هزيمة يونيو المشهورة، تقدمت منها امرأة أعطتها مزهرية فكانت أغنية “القدس” الشهيرة التي تقول في مطلعها “مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة قدام الدكاكين البقيت من فلسطين” .. ولا ننسى أغنياتها عن الشام التي تكاد تكون أجمل ما غنته من وطنيات .. إضافة إلى ما غنته لكل قطر عربي دون استثناء.
كثيرة هي نماذج الأغنية الوطنية التي تحتاج إلى صفحات .. سألت مرة أحد المغنين الشباب عما إذا كان يغني وطنياته إحساسا أو مجرد كلام في الهواء، فرد علي كمن يشهر مسدسا بأنه يشعر بعظمة الكلمة وهي تملأ فمه كونها صاعدة من قلبه. الوطن إذن أجمل الكلمات وأحلاها وأشدها تأثيرا في النفوس في كل الأوقات .. وإذا ما كان لهذا الوطن زعيمه ورمزه الأكبر، يكون هو أيضا مصدرا مباشرا للأغنية، العلاقة بين الزعيم والقائد والوطن معنى مترابطا لا يمكن انفكاكه.
كم لعب هذا النوع من الغناء دورا في تعليم الأمية كما حصل في تشيلي إبان حكم الرئيس الليندي، وكم كان دوره كبيرا إبان الحرب العالمية الثانية حين سطعت في روسيا بأمر من ستالين أغنيات تمجدها .. وكم التهبت الإذاعات السرية التي صدرت في فرنسا إبان الاحتلال النازي لها مشاعر الفرنسيين ودفعتهم إلى الالتحاق بالمقاومة الوطنية، وكذلك في الجزائر إبان حرب تحريرها، وأيضا أغنيات المقاومة الفلسطينية ..
لا يبقى غير الوطن معنى لأجمل الكلمات وأحلى الأصوات وأبهى الألحان.