مقالات

بريطانيا و«سؤال الهوية»

 
مصطفى زين
 
 
«بقي اسم المملكة المتحدة مصطلحاً تقنياً طيلة ستينات القرن الماضي، كان يستخدمه الديبلوماسيون والجيش، ونادراً ما كان يستخدم لتحديد هوية أمة معينة».
 
 
من كتاب «المملكة المتحدة» للمؤرخ البريطاني ديفيد إدغيرتون.
 
ما زال سؤال الهوية مطروحاً بقوة في بريطانيا. ازداد السؤال إلحاحاً بعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي. وقد بدا أن لكل جماعة أو حزب رأياً في العلاقة مع الآخر المختلف. غلاة المحافظين واليمين المتطرف العنصري يغلف عداءه القومي لأوروبا بإحصاءات تؤكد أن المصلحة في الانفتاح على العالم كما لو أن لندن ما زالت عاصمة للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وكأن باقي الدول ما زالت تابعةً وعليها أن تعمل بقوانينها التجارية. وأكثر ما يوضح هذا التعصب الموقف من المهاجرين الأوروبيين وغير الأوروبيين الذين «ينافسون أبناءنا على لقمة عيشهم»، على ما يقول نايجل فراج.
 
واللافت أن حزب العمال، بزعامة اليساري جيريمي كوربن، لا يقل عداءً لبروكسيل من المحافظين، إذ اتخذ موقفاً شبه محايد خلال الاستفتاء على «بريكزيت» عام 2016 ما رجح كفة المطالبين بـ «بريكزيت»، وحجته في ذلك المحافظة على حقوق العمال، علماً أن القوانين الأوروبية تضمن هذه الحقوق أكثر من القوانين البريطانية. ولا شك في أن الحزب ينطلق بموقفه من موقع قومي. وهو لم يكن في يوم من الأيام إلا في هذا الموقع، سواءً كان ذلك في عصر الإمبراطورية أو في ما بعد ذلك. وباسم بريطانيا العظمى تحالف زعيمه توني بلير مع بوش الابن في حربه على العراق، وبهذه الصفة أيّد إسرائيل عندما عيّنه بوش رئيساً للرباعية الدولية التي غطت على كل الجرائم الإسرائيلية، ومهدت لتطبيع بعض العرب مع الدولة العبرية.
 
ويؤكد أزمة الهوية موقف اسكوتلندا وإرلندا من قضية «بريكزيت». الأولى تهدد بالانفصال عن المملكة المتحدة إذا تم الطلاق مع أوروبا من دون اتفاق يرضيها، والثانية معرضة لعودة الحرب الأهلية وتكريس التقسيم. فالكاثوليك الذين استقلوا بجمهوريتهم بعد حروب استمرت عشرات السنين مصرون على البقاء في الاتحاد الأوروبي، أما المقاطعة البروتستانتية التابعة للندن فمع «بريكزيت»، ولها تأثير قوي في اتخاذ القرارات المركزية، إذ يؤمِّن نوابها في مجلس العموم الأكثرية لحزب المحافظين الحاكم. أما مقاطعة ويلز فليس لها تأثير كبير في اتخاذ القرارات، لكنها معرضة أيضاً للانفصال.
 
هذا على مستوى المقاطعات التي تشكل ما يعرف بالمملكة المتحدة. أما على مستوى الجاليات التي تعيش في هذه المملكة (يشكل المسلمون أكثرها عدداً) فتأثيرها ضعيف جداً، عدا اليهود الذين يقررون سياستهم بناء على موقف إسرائيل، وحضورهم قوي في الحكومة ومجلس العموم، خصوصاً أن اللوبي الإسرائيلي نشيط جداً، وتهمة «اللاسامية» جاهزة لإطلاقها على أي مناهض لتل أبيب أو ينتقد احتلال فلسطين. وقد تعرض كوربن لحملة تتهمه بمعاداة اليهود، وانشق عن حزبه عدد من النواب احتجاجاً على موقفه المؤيد للفلسطينيين.
 
هذا على مستوى الجاليات، أما على مستوى الأفراد فالانتهازية سيدة الموقف. وزير الداخلية ساجد جاويد (مسلم من حزب المحافظين) كان يفضل أن يعيش في إسرائيل لو لم يكن يعيش في المملكة المتحدة. ورئيس بلدية لندن (مسلم من حزب العمال) اعتمر القلنسوة اليهودية في الكنيس فور فوزه بالمنصب، ويتخذ مواقف لا تقل حدة عن مواقف المسؤولين اليهود من مسألة «اللاسامية» التي تلصق بكوربن وتياره الحزبي.
 
الأمم لا تولد مثل الأفراد بهوية محددة. هويتها في تشكل دائم. وبريطانيا التي تعيش أزمة هوية الآن (إدغيرتون) لا تختلف عن غيرها، فعلى رغم استقرارها هناك ما يحرك مكوناتها التي تبدو منسجمة في الظاهر، لكنها معرضة للتفكك.