مقالات

في العمق : المركز الوطني للتشغيل من الاستلطاف إلى الاستشراف

 
 
د. رجب بن علي العويسي
 
تأتي قراءتنا للموضوع من فرضية استشراف توقعات الدور المعقود على المركز تحقيقه، إذ إن وجوده اليوم كمؤسسة رسمية لها بنيتها التشريعية والتنظيمية واقعا يفرض تحولات جديدة في مسار العمل الوطني الموجه نحو قطاع التشغيل والموارد البشرية والكفاءات الوطنية عامة وملف الباحثين عن عمل بشكل خاص. لذلك يصبح التعاطي معه أولوية يجب أن تدركها المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء، ومدخلا استراتيجيا لتحويل المورد البشري إلى قيمة مضافة في مسار الإنتاجية الوطنية. لذلك لا ينبغي التعاطي معه في كونه استلطافا للمواطن أو دعوة للقطاعين الحكومي والخاص لرفده بالوظائف والشواغر والمهن، بقدر ما هو مرحلة استراتيجية استشرافية معززة بقوة التشريع وكفاءة التنظيم الذي تعمل عليه كأحد مسارات العمل الوطني الواعي لبناء سياسات وطنية ناضحة متزنة تستشرف مستقبل التشغيل في عمان وتفرض واقعا جديدا على الجميع أن يعمل عليه وأن يلتزم بتحقيق سقف توقعات المواطن والحكومة معا. لذلك نعتقد بأنه يمثل قوة استراتيجية في صالح ترقية الكفاءة الوطنية والإعلاء من شأن المبادئ الوطنية الموجهة نحو التشغيل والباحثين عن عمل في سبيل تحقيق تحولات تبرز على الأرض تتسم بالتسارع والديناميكية والتطور والتجديد والتفاعل، بما تمثله من موقع لها في منظومة العمل الوطني وحضور لها في طموحات كل مواطن.
هذه الفرضية التي نؤكد على أهمية أن تكون حاضرة في عمل المركز وأنشطته القادمة وقناعات القائمين عليه، تنطلق من جملة من الدلالات، تتعلق الأولى بالمرحلة التي جاء فيها إقرار هذا المركز من قبل مجلس الوزراء الموقر والمباركة السامية له في اجتماعه بمجلس الوزراء بصحار ثم ما تبعه من صدور المرسوم السلطاني السامي رقم (22/2019) بإنشاء المركز الوطني للتشغيل وإصدار نظامه، وهي مرحلة مرت بالكثير من التجاذبات وتعدد الآراء والأفكار وتم إثراؤها بالكثير من وجهات النظر، خصوصا أنها جاءت متزامنة مع رؤية عمان 2040، بما يؤسس لمنظومة عمل أقوى قادمة في التعاطي مع المورد البشري الوطني وآليات تمكينه. وأما ثانيا، فيرتبط بالأهداف والاختصاصات التي جاء المركز لتحقيقها والتي حددها الفصل الثاني من المرسوم السلطاني في المادتين (3،4) بما تطرح أنموذجا عمليات لمنظور التكامل في قراءة البعد الاستشرافي للعمل الوطني الموجه تحو قضايا التشغيل والباحثين عن عمل وسوق العمل والمؤسسات التعليمية والتدريبية والتخصصات في التعليم العالي والقطاع الخاص والأيدي العاملة الوطنية باعتبارها منظومة متكاملة يجب التعاطي معها برؤية واحدة وفي إطار عمل وطني مشترك. وثالثها، أن إنشاء المركز يأتي في ظل تحديات يواجهها ملف التشغيل والباحثين عن عمل، أثرت في بعض مراحلها على مستوى الثقة التي يبديها المواطن الباحث عن عمل في الجهود التي تقوم بها الحكومة في التعامل مع هذا الملف، ولعل ما أفصح عنه الهاشتاق عبر منصات التواصل الاجتماعي المعنون بـ”باحثون عن عمل يستغيثون” أحد هذه الإرهاصات في التعاطي مع هذا الملف، والطموح بأن يشهد هذا الملف تحولات مهمة في عملياته الاستراتيجية والتخطيطية والتنظيمية والتقييمية وجوانب الدعم وغيرها. أما الدلالة الرابعة فتتعلق بالتراكمات التي باتت تضيف إلى هذا الملف أثقالا كثيرة وأوزارا كبيرة قد يكون المتسبب الأكبر فيها مؤسسات بالقطاع الخاص وما نتج عن ضريبة التسريح القسري الحاصل للقوى العاملة الوطنية من تراكمات أرهقت هذا الملف، وأخيرا فإن التباين الحاصل في الإحصائيات المتعلقة بالباحثين عن عمل والرقم المخيف للأيدي العاملة الوافدة في القطاع الخاص، وغيرها، معطيات تطرح أهمية النظرة الاستشرافية المتفائلة في وجود المركز وإفساح المجال له بإيجاد حلول تتسم بالسرعة والدقة والمهنية والاستدامة في التعامل مع ملف الباحثين عن عمل والتشغيل، والتحول الذي يجب أن يصنعه المركز في سبيل بناء أطر استشرافية واضحة المعالم في هذا الشأن.
وبالتالي كيف يمكن للمركز أن يتعامل مع هذه التراكمات الحاصلة في هذه المنظومة جميعها؟ وكيف يستفيد من الممكنات التي أبرزها المرسوم؟ وكيف يتعاطى مع الواقع المستجد بصورة تزيل حالة التشويش على الصورة القادمة التي يمكن للمركز أن يحقق فيها جميع الاختصاصات الثلاثة عشر وغيرها كثير؟ هذه التساؤلات تطرح على المركز جملة من الالتزامات والقرارات والأنشطة والبرامج والأولويات والموجهات التي يجب أن يسرع وتيرة عمله فيها لضمان قدرته على احتواء كل الأفكار المطروحة على الساحة الوطنية من قبل الباحثين عن عمل كأول هذه الفئات التي يجب أن تحظى باهتمام المركز ونقل تفكيرهم إلى مرحلة الفعل الذي يصنعه كشاهد إثبات على استحقاقات قادمة، وهو ما يعني أن المفهوم الذي ينبغي أن يعمل عليه المركز نابع من إطار استشرافي واضح واستراتيجية عمل قادمة يشهدها الشأن الداخلي العماني فيما يتعلق بمسألة التوظيف وخلق تحولات في المنظور المستخدم وإعادة توجيه مسار العمل بطريقة تحقق التوازن بين القطاعات والتناغم في الأولويات وترصد المصداقية في دور القطاع الخاص في المساهمة الفاعلة في فتح المجال للمخرجات الوطنية للانخراط في سوق العمل. وبالتالي ضمان امتلاك المركز للممكنات الداعمة لقراراته بشأن إلزامية تعاطي القطاع الخاص مع ملف الباحثين عن عمل، كما هو الحاصل مع القطاع الحكومي المدني والعسكري والمدني وهو ما أكدته المادة (5) من المرسوم السلطاني(22/2019)، فإن عمل المركز وأهدافه واختصاصاته في المادتين(3،4) يتسم بالشمولية والاتساع والعمق، ودخوله في كل مفاصل العمل التنموي، وارتباطه بكل مجريات الحالة الوطنية في منظومة التشغيل وسوق العمل والقطاع الخاص وحركة التوظيف والتشغيل، بما يعني أن يمارس المركز دورا رياديا استشرافيا لمستقبل الأجيال القادمة، وبما يحقق طموحات الأجيال الحالية والمخرجات التعليمية من مؤسسات التعليم العالي والجامعي او مخرجات الدبلوم العام وما قبله، لذلك يجب أن يتعاطى المركز مع هذه الاختصاصات في ظل استشراف مستقبل التشغيل والاحتياج الوطني من الوظائف من جهة، وأن يمتلك آليات البحث في معطيات الثورة الصناعية الرابعة ويتفاعل مع طبيعة المنجز التنموي المراد تحقيقه، ويعمل على الإسهام الفاعل في خلق تناغم بين البرامج والخطط والسياسات التعليمية وبين حركة المصانع وعمل الشركات وطبيعة المهن والوظائف القادمة؛ فإن حزمة الصلاحيات الممنوحة للمركز تتيح له ممارسة أدوار رقابية وتقييمية وتشريعية في المجال، وهو ما يصنع منه تحولا في منظومة التشغيل، بحيث تفرض واقعا جديدا على المؤسسات المدنية والوزارات والهيئات والقطاع الخاص أن تستوعبه بشكل صحيح، في امتلاك المركز لقواعد بيانات أصيلة منتجة وصحيحة ومحدثة وموثوقة يستطيع من خلالها تحديد حاجات هذه المؤسسات من القوى العاملة الوطنية في كل مرحلة، وفرض سياسة واقعية بتبني هذه المؤسسات آليات قبول هذه المخرجات بحسب رصده المستمر لواقع حركة الوظائف فيها والتجديد والتطوير في أنشطتها وأنظمة عملها، إذ من شأن ذلك أن يضع هذه المؤسسات أمام إفصاح حقيقي لواقعها، ودفع مؤسسات التعليم العالي إلى توفير تخصصات تعليمية ذات حضور لها في سوق العمل وإعادة النظر في التخصصات وتقليل الازدواجية والتكرار فيها بين مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة، وغير ذلك.
من هنا نعتقد بأن التحول الذي يصنعه المركز على مستوى التشغيل والتوظيف وبناء القوى العاملة الوطنية والمحافظة على استمرارية وجودها في القطاع الخاص، يستدعي التركيز على: كفاءة وفاعلية التشريعات التي يعمل المركز على صياغتها في سبيل تعزيز بنية التشغيل وبناء القوى العاملة الوطنية، وسلطة القرار التي يمتلكها في توجيه القطاع الخاص نحو القيام بدور أكثر فاعلية ومصداقية في التعامل مع ملف القوى العاملة الوطنية والوصول إلى سقف التوقعات في هذا الشأن، وامتلاك أدوات وآليات متابعة وتقييم وتشخيص وتصحيح، تعزز جوانب القوة والتنافسية بين المؤسسات في الاستجابة لهذه التوجهات الوطنية بشأن التعاطي مع منظومة التشغيل وملف الباحثين عن عمل، ومعالجة حالة الإخفاقات أو عدم الاستجابة المباشرة التي تمارسها بعض مؤسسات القطاع الخاص في التعاطي مع هذا الملف، بالإضافة إلى استقراء اتجاهات الرأي العام في سيناريوهات العمل البديلة والآليات التي تتناسب مع الخصوصية العمانية في الاستفادة من التجارب العالمية وأفضل الممارسات في هذا الشأن، وهندسة التوظيف وفق استراتيجيات تؤمن بالمشاركة وتحقق المسؤولية في وضع هذا الملف أمام حوارات مستمرة ولقاءات مشتركة ومعالجات جدية واقعية تستفيد من الإخفاقات الحاصلة في الملف وإعادة تقييم مخرجات التعليم العالي والمدرسي، وإعادة تصحيح ملف سوق العمل الأيدي العاملة الوافدة فيه، وموقع القوى العاملة الوطنية منه وغيرها من المعطيات ذات العلاقة.
وعليه يبقى على المركز وفي ظل هذه المرحلة الحرجة التي يتزايد فيها المطالبة بدور أكبر للحكومة في معالجة إشكاليات الباحثين عن عمل ووضع حد لممارسات الشركات والقطاع الخاص المتجهة إلى تسريح القوى العاملة الوطنية، أن يسرع من وتيرة التنفيذ واستراتيجية العمل التي تتجه إلى استيعاب هذه القوى العاملة الوطنية في مؤسسات القطاع الخاص، عبر ممارسات تظهر على الأرض واستراتيجيات أداء تتيح للباحثين عن عمل فرص الشعور بثقتهم فيما يقدمه المركز من جهود أو يؤسسه من فرص ومبادرات ويصنعه من توجهات ويقره من تشريعات تؤكد على مسؤولية الجميع في التعاطي الواعي مع ملف التشغيل والباحثين عن عمل والموارد الوطنية العاملة وديناميكية الوظائف وغيرها، بطريقة تؤسس لمرحلة الإنتاج والمتنافسة وتعميق الروح الوطنية في نقل هذا الملف الى واقع التطبيق. وبالتالي نعتقد بأن هذه الرؤية الاستشرافية التي يسعى المركز لتحقيقها تتجاوز كل دعوات الاستلطاف والاستجداء التي نسمعها من قبل الكثير من الكتاب والمغردين عبر منصات التواصل الاجتماعي والتصريحات الصحفية للمسؤولين فإن ما يتمتع به المركز من صلاحيات بنص القانون سوف يعزز فيه إنتاج القوة وفرض سلطاته التشريعية والتنظيمية ورقابته على قطاع التشغيل والتوظيف والباحثين عن عمل، بطريقة تضمن كفاءة المنتج المتحقق واستيعاب المخرجات، فإن القرار الذي يمتلكه والسلطة التي يدير بها موارده وممتلكاته ومهامه، تضعه في مقام القوة في فرض قراره في مجال عمله في عمليات التشغيل والتوظيف للباحثين عن عمل، كما يعمل في ظل مبدأ الشراكة والحوار والتقييم والمتابعة والتصحيح والتوجيه والاحتواء بما لا يؤثر على سيادة قراراته في تقييم دور مؤسسات القطاع العام في التزامها معايير التشغيل وديناميكية الوظائف، فهل سيمتلك المركز الوطني آلية التعامل مع هذا الواقع المعقّد بتراكماته، ويكتسب ثقة الشباب العماني الباحث عن عمل، ويمتلك آليات التعاطي الواعي مع التحديات المرتبطة بالتشغيل، ويعيد الثقة في الكفاءة العمانية، ويحشد الجهود لانخراطها في القطاع الخاص ويعيد النظر في تقييم المسارات التعليمية والتدريبية؟ هذا ما نرجو أن نلمسه في قادم الوقت.