د. هشام أحمد فرارجة
لا تكمن خطورة أعلان دونالد ترامب بأن القدس هي عاصمة (أسرائيل) وباستعداده نقل السفارة الامريكية أليها من تل أبيب في كون هذا الاعلان يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي وأشهارا رسميا لموت العملية السياسية المنبثقة عن أوسلو والمتآكلة أصلا منذ بدايتها، فقط. وأنما تكمن خطورة هذا الاعلان أيضا في كونه صادرا عن رئيس تتفق الكثير من الآراء للمتخصصين في علم السياسة والنفس بأنه يعاني من مشاكل عقلية جدية، بالاضافة ألى جهله في الشؤون الخارجية والدبلوماسية.
فمؤخرا صدر كتاب “خطورة حالة ترامب”، مؤلف من سبعة وعشرين متخصصا مرموقا في علم النفس يبين عمق مواطن اختلال شخصية ترامب وعدم اتزانه، ومن ثم عدم قدرته على أجراء حسابات دقيقة عند اتخاذ القرارات، خاصة المصيرية منها. فما يهم ترامب بالدرجة الرئيسية هو شعوره بالنشوة بسبب تميزه عن الآخرين وتكريس صورته كبطل يحقق أنجازات أكثر من غيره وكشخص يفي بالوعود أكثر من كل الرؤساء الذين سبقوه. ليس مهما بالنسبة للترامب ما يمكن أن يترتب على سياساته وقراراته وأعلاناته من نتائج. بل على العكس، يزداد شعور ترامب بتفوقه كلما أثار الانتباه من حوله وشد الأنظار ألى أقواله وأفعاله. فما كان بوسعه أن يرد عندما طرح عليه سؤال بخصوص أمكانية تصويت عدد من الدول في الجمعية العامة لصالح قرار يدين أعلانه بخصوص القدس ألا أن يقول بأنه سيوقف “المساعدات” للدول المسوطة لصالح القرار وأنه (لا يهمنا.)
ولذلك، وعلى الرغم من المخاطر الحقيقية التي ستنتج عن أعلان ترامب بخصوص القدس، أّلا أن ما يقلق أكثر هو ما الذي سوقوم بعمله بخصوص فلسطين والمنطقة بعد ذلك. فترامب محاط بمجموعة أزمات داخلية قانونية حقيقية نبعت من أحتمال أجراء تنسيق بين حملته الانتخابية وروسيا ضد مرشح رئاسي آخر، هيلاري كلينتون، وما يمكن أن يترتب على ذلك، أن ثبت، من تبعات قانونية قد تطيح برئاسته وتودي به وأو ببعض المقربين جدا منه ألى الاعتقال. فرغم كون تركيبة الكونغرس الامريكي مساعدة له لأنها بمعظمها من الحزب چجمهوري الآن، أّلا أن أمكانية عزل ترامب من الرئاسة يجب أخذها على محمل الجد.
وأذا ما جمعنا هذه الامكانية المقلقة للغاية لترامب والتي تهدد مصيره وطموحاته وأحلامه، مع خصائص شخصيته كأنسان مندفع، متهور يتطلع لنشوة اللحظة وليس لمآلات خطواته الاستراتيجية، فأنه علينا عندها أن نفكر مليا فيما يمكن أن يصدر عن ترامب بعد أعلان القدس، بحيث يكون أكثر أثارة وأكثر خطورة.
فمثلا، على الصعيد الداخلي في أمريكا، نجد ترامب قد سارع لأصدار خطته الضريبية وألى كيل وابل من الاتهامات ضد مكتب التحقيقات الفدرالية، كخطوة أستابقية لما قد تفضي أليه التحقيقات الجارية بخصوص أمكانية تطورته وأو حملته الانتخابية بالتنسيق مع الروس ضد مرشح رئاسي آخر.
وأما على الصعيد الخارجي، فهو أمر معروف أن الرؤساء الامريكيين عادة ما يهربون ألى الشؤون الدولية عندما يتعثرون محليا. فهذا ما قام بفعله رتشارد نيكسون عندما برزت معالم وترغيت، وأضيا ما قام بفعله جورج بوش الابن عندما بدت رئاسته متعثرة. فالاول وجه الانظار ألى العلاقات مع الصين والانفتاح على مصر. بينما الثاني قام بتسليط الاضواء على أفغانيستان والعراق من خلال حروبه العدوانية.
وضمن سياق أكثر خطورة بالنسبة لترامب بحكم تركيبة شخصيته وتفاعل خصائص هذه الشخصية من خلال سياساته وقراراته، فأنه في الغالب سيتبع أعلان القدس بخطوات عملية على الصعيد الاقليمي والتي يهدف من ورائها ألى بعثرة الاوراق وضرب بعض اللاعبين لتمكين آخرين من الحلول مكانهم، تمهيدا لتحقيق وهمه بصفقة القرن. ليس نتوقعا أن يكتفي ترامب هذه المرة بأطلاق الوعود والاعلانات، سواء تعلق ذلك بيهودية (أسرائيل)، أو مصير المستوطنات في الضفة الغربية أو بحق اللاجئين الفلسطينيين بالتعويض والعودة، وأنما المرجح أن يذهب ترامب أبعد من ذلك بكثير، من أجل أشعال المنطقة برمتها ومن ثم تهيئتها لقبول ما يتوهمه بأنه صفقة القرن.
كل ما ذكر لا يعني بأن مخططات ترامب سوف يكتب لها النجاح، رغم كون أحدى خصائص شخصيته الاخرى هي العناد المفرط. أن دراية جيدة بدوافع وأدوات وغايات السياسة الامريكية الخارجية يمكن أن تؤدي ألى أبطال مفاعيل أعلانات ترامب التي قد تمت، وكذلك خطواته وسياساته المرتقبة، الموضوع الذي ستتناوله مقالة لاحقة.
ولكن، ورغم تلك الشخصية النرجسية العنيدة المندفعة المتطلعة ألى نشوة الأنا، أّلا أنه يحق لترامب أن يسجل له بأنه كان الاقدر في الاطاحة بالقناع عن وجه السياسة الامريكية المزيف عند البعض بخصوص القضية الفلسطينية. ومن أجل فهم أهمية هذه الخطوة التي قام بها ترامب من خلال أعلانه بشأن القدس، فأنه يتوجب تخيل مآلات الامور لو فازت منافسة ترامب في انتخابات الرئاسة الامريكية الاخيرة. فلربما تعاظمت عندها أصوات المطبلين والمزغردين لمستقبل العملية السياسية الميتة بسبب نعومة سياساتها وأعلاناتها وخطواتها.
فبالنسبة للبعض الذي لم يعِ طيلة ربع قرن أن عملية أوسلو السياسية أريد منها الاجهاز على القضية الفلسطينية، لا النهوض بها، ما كان ليزحزحهم عن معتقدهم، لا موت العملية السياسية نفسها، ولا النتائج المدمرة التي أنتجتها، ولا تحليلات أبرع المحللين والمراقبين، كما فعله ترامب بأعلان بخصوص القدس. فذلك السراب الذي كان يركض وراءه البعض واهمين أن في أمريكا يكمن الحل قد تبدد بالمطلق الآن ويجلا أن يكون بدون رجعة, حتى لو انتخب رئيس أمريكي آخر بسياسات ناعمة في دورة قادمة. والفضل في ذلك يعود لدونالد ترامب بحكم غبائه وسطحية حساباته وقصر نظره السياسي.
الآن، ما الذي على الشعب الفلسطيني أن يفعله لكي يستثمر هذه الفرصة الذهبية التي منحه أياها ترامب بأطلاقه أعلانا رسميا مزلزلا بفشل نهج كانت الغاية منه تمريغ أنف الشعب الفلسطيني في الوحل لمدة ربع قرن وبانتهاء حقبة بكاملها!
ان الاجابة على مثل هذا التساؤل تتطلب الاستناد الى معطيات وتحليلات سياسية واقتصادية بهدف صياغة استراتيجية فلسطينية محكمة, محددة الأدوات والغايات الدقيقة, وآخذة بالحسبان مختلف المتغيرات على كافة الصعد.