منى صفوان
من يحكم تعز.. يحكم اليمن، ليس بسبب موقعها فقط بل ايضا بسبب سكانها، لكن تعز خلال 3 سنوات كانت اتعس مدينة يمنية، حاصرها الحوثيون من الخارج وسيطرت عليها الجماعات الدينية المتطرفة من الداخل “الاصلاح والسلفين”
وحاول اهل تعز الابقاء على الروح اليمنية متقدة ، برغم محاولة الصاق تهمة المناطقية بهم، الا انهم اكثر اهل اليمن تكيفا مع الجغرافية اليمنية والسياسية المعقدة، انهم على مدى الامتداد والتاريخ والحصة الجغرافية يفترشون ارض اليمن من اقصاها الى اقصاها، فمن هنا تأتي اهمية الاخبار عن بدء تحريك الرقعة العسكرية في تعز.. لانه امر يعني اليمن كاملا.
تعز هي قلب الجمهورية منذ بدء نشأتها كفكرة في اربيعنيات القرن الماضي، عليك بسرد تاريخ تعز السياسي، لتفهم تاريخ اليمن المعاصر، فالنوادي التعزية في عدن في منتصف القرن الماضي مع وجود الاحتلال الانجليزي كانت النواة الفكرية لمولد “الجمهورية” في بلد قبلي مسلح محتل محكومة بالاسر والسلاطين والشيوخ.
النوادي الثقافية في عدن وقتها والتي كان عدد منها لابناء تعز مثل “النادي الذبحاني” كانت مجتمع النخبة الثقافية والفكرية “كان جدي رحمه الله احد رؤساء هذا النادي الذي كان النعمان والزبيري يجتعون فيه” ، ومن هنا شكلت تعز اهمية استثنائية في مسار تحولات اليمن الكبرى ، وكان من الطبيعي ان يكون ابرز كتاب المرحلة وسياسيها من تعز، سواء في الجنوب او الشمال بعد نجاح الثورتين في الستينيات.
فالتعزي الذي تخفف من عبء القبيلة مكبرا، ومن الارث التقليدي، وارتدى عمة العلم بدلا من العمة الدينية ، تمرد اولا على مشائخ القرية ومشائخ الدين، من النوادرل التي تروى نا ان ابائنا حين غادروا كتاب القرية الى مدارس عدن وارتدوا البنطلون كان يقال عنهم انهم كفار بسبب ارتداء البنطلون وقتها، لكن تعز التي ارتدت البنطلون بقيت محافظة على تراثها، وبرغم رميها للسلاح مبكرا جدا، الا انها عادت وحملته في مهمة النضال الكبرى، حين كان موعد اليمن مع ولادة جمهورية الشمال ومن ثم جهورية الجنوب. والان في مهمة الدفاع عن الجمهورية وليس عن حزب او جماعة.
تعز ليست جنوبية ولا شمالية، ليست قبلية ولا حزبية، وليست بالتالي ليست رهن لاحد ولن تكون ، انها دوما متمردة، وهي من تصيغ القوانيين واول من يفرض النظم والبروقراطية، انها توليفة خاصة، حتى اقتصاديا، فتجار تعز وهم كبار بيوت الاعمال في اليمن بنو مصانعهم في تعز، على خلاف شيوخ المال الاخرين في المحافظات الاخرى حيث بدت محافظاتهم فقيرة جدا برغم الثراء الفاحش.
يشكل سكان تعز “المحافظة الذهبية” القوام الذهبي لتعداد السكان في اليمن، حيث ان نسبتهم تتعدى الـ 20 % من سكان اليمن .. ، برغم ذلك تجدهم في نواة الاحزاب اليسارية والاسلامية على حد سواء ، متفرقين بين الايديلوجيات، ويشكلون قوام الطبقة الوسطى من موظفي الدولة، والمتعلمين، لذلك تاتي اهميتها الاقتصادية ايضا وليس فقط السياسية والفكرية. لذلك فسقوط تعز الاقتصادي كان هو بداية سقوط الطبقة الوسطى في اليمن .
وبرغم اعلانها عاصمة للثقافة اليمنية، نظرا لمستواها الثقافي الخاص ، الا انها عاصمة اقتصادية بالدرجة الاولى، حيث ان ابناء تعز هم “اليد العاملة” الاكثر تواجدا في اليمن بسبب نسبة تعداد السكان في تعز قياسا الى باقي محافظات اليمن. فهم يعملون في كافة الاعمال تقريبا، فليس هناك عمل عيب عن التعزي. على خلاف بعض المناطق التي لا ترى في بعض الاعمال شرفا ، ان الطبقة العاملة الكادحة في اليمن قوامها الاكبر من ابناء هذه المحافظة.
هذا ليس تغنيا بتعز، ولا تعاليا، بل هو الانصاف الذي يقوله اي يمني، قاله الامام وقاله الشيخ وقاله الرئيس على مر العصور السياسية، وربما من هنا يأتي ايضا الخوف من تعز، التي لم تكن يوما امامية ولا مستعمرة انجليزية، لقد كانت حرة وتمردة… ان عدن وصنعاء تدينان لها بالفضل بحسب بالحسبة التاريخية، وهي قامت بدروها الوطني، وكان عليها القيام به، لذلك كان الصراع على تعز هو دائما الصراع الاهم.
وهنا خلال 3 سنوات كانت قضية تعز في الحرب هي القضية المعقدة التي لايمكن حسمها بسهولة، الخوف من سيطرة الحوثيين، ومن سيطرة الاصلاحيين، والجماعات السلفية، هو ما جعل الامر ملتبسا ومرتبكا تجاه تعز.
والان لايبدو لنا الان ان هناك مسار جديد، اولا بتعين محافظ جديد ليس محسوبا على اي من الاحزاب الاسلامية واليسارية او ما بات يعرف باحزاب اللقاء المشترك التي كان يبرز فيها حزب الاصلاح الاسلامي، حيث لم تخفي دولة الامارات تخوفها الصريح من سيطرة الاصلاح على تعز، وفضلت بقاء وضعها المتارجح بين اشتبكات داخلية بين عناصرها المسلحة من جهة، ومع الحوثيين على حدودها من جهة اخرى.
الامارات يبدو انها حسمت امرها اخيرا، ولايبدو ان هناك اي تحفظ من قبل تعز الحقيقية في الداخل غير المحسوبة على اي طرف، والتي لاتريد الا تخليصها تماما من حالة الاشتباك.
فجاء اعلان المحافظ الجديد لخبر بدء العمليات العسكرية في تعز عبر وسائل اعلام اماراتية، واتضحت الصورة، ولم يظهر حزب الاصلاح اي تحفظ كذلك او اي رفض، بعد مشهد التقارب واللقاء بين قادة الاصلاح والشيخ محمد بن زايد.
فالامارات تعلم انها وغيرها لن يمكنهم السيطرة على الجنوب والساحل الغربي دون ضمان ولاء او تحالف تعز، وتأتي معركة تعز لاظهار الاهمية الاستراتيجية لها، فقط كان واضحا ان هناك قرار اقليمي بتاخير المعركة، بسبب تواجد الاصلاح القوي فيها.
هذا التوافق الاقليمي والمحلي، يغير المعادلة، فتعز يمكنها تغير لمعادلة كليا، فهي بوابة الجنوب، وهي ايضا مخرج الشمال ، وبرغم اختلافها المذهبي مع مذهب الشمال الزيدي الا ان الامر لم يكن يوما مذهبيا ولا عقائديا، فقد استطاعت المحافظة ان تنجو من العصبية المذهبية وكانت مشكلتها مع الحوثيين تتعلق اولا باقتحامهم المسلح، وان كانت قد سجلت في التاريخ خروجا على حكم الامام الزيدي، فان هذا لم يكن بدافع انها تريد الحكم، بل كانت تؤسس لدولة ونظام وجمهورية، لايهم فيه مذهب الحاكم، ولا عائلته ، بقدر ما يهم القانون الذي سيطبقه.
ان اليمن والتحالف العربي امام فرصة ذهبية الان، ان عادت تعز بوجهها الحقيقي المتخفف من اي ايدلوجيا، او مسار سياسي متحيز، تعز ليست اصلاحية وليست حوثية، انها جمهورية، وهي وحدها تعرف اهمية الجمهورية والديمقراطية ، لانها تعرف ان بقائها ببقاء نبض الجمهورية حي، فهي تموت في حكم السيطرة المليشاوية المسلحة، او حكم التطرف الديني.
هل يحدث لتعز ما يتمناه اليمن، لن نبالغ ان قلنا ان انقاذ صنعاء واليمن يأتي من تعز، ولن نبالغ ان قلنا ان على الحوثيين اجراء مصالحة حقيقة مع ابناء تعز والاعتذار لهم على هذا الانتهاك الصريح لمدينتهم.
الحكم المدني والدولة المدنية اهداف سامية ، وحالمة، ولكن هناك من يرفع رايتها ويصدق بها، انها اهداف تستحق النضال من اجلها، فلن تكون هناك مصالحة حقيقيه في اليمن ولا مشروع سلام ومفاوضات ، والمدينة الاهم غامضة الملامح، وتائهة الطريق الى المستقبل.