مقالات

أوقفوا العبث الفكري في السودان!

خالد الاعيسر
ثمة جدل سياسي عميق على خلفية الأزمة السياسية المتصاعدة في السودان حول السقف المسموح به للمعارضين في الفضاء الافتراضي لشبكة الإنترنت من الخارج في سياق تفاعلهم مع الأزمة الوطنية بالداخل.
النظام السوداني وكما هو الحال مع كل الأنظمة الشمولية في المنطقة العربية والإفريقية يجند جيوشاً جرارة من النشطاء في وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة وينفق أموالاً طائلة للحد من فاعلية ونشاطات المعارضين والنشطاء السياسيين في الشبكة العنكبوتية.
ولعل الأمر الأكثر غرابة يتمثل في أن أنصار النظام الذين هم يقتاتون بأموال إخوانهم وأخواتهم من السواد الأعظم للشعب السوداني المسحوق، يطالبون المعارضين بالخارج بالكف عن مطالبة السودانيين بالداخل لمواصلة المظاهرات السلمية، باعتبارهم غير مؤهلين لذلك فقط لأنهم يعيشون في الخارج، بل وينعتونهم بصفات من قبيل جنود ومناضلي الكي بورد.
فرط ما يحدث من مفارقات في السودان أن هؤلاء -المستفيدين “بنظرة قاصرة” من بقاء النظام في السلطة وغطرسته وإذلاله للشعب السوداني- لم يتذكروا على الإطلاق في غوايتهم وضلالهم بأن الذين خرجوا للشوارع في القرى والأرياف والمدن السودانية هم آباء وأمهات وإخوان وأخوات المقيمين بالخارج، ولا أظن أن من يقيمون بالخارج يرضون الموت والخطر لذويهم وأحبتهم في الداخل، خاصة وان الدم واحد، ولو تبدلت المواقع ستبقى المعادلة مقبولة بضدها ولا ينكر ذلك إلا صاحب مصلحة، أو مرتزق أجير جاءت به حكومة الإنقاذ من خارج حدود الوطن القديم ليفتن ويقتل ويشرد وينكل بالناس سعياً لاغتصاب الوطن من أصحابه الأصليين!.
السؤال الجوهري هنا، هل أوضاع السودان اليوم مناسبة للمطالبين بالحقوق من الخارج لأن يكفوا عن مطالبهم ودعمهم للمتظاهرين من حيث يقيمون، في وقت امتلأت فيه السجون السودانية بالمعتقلين والمعتقلات الذين يناضلون بالداخل؟.
هذه الأسطوانة الاقصائية مشروخة وتجاوزها الزمن ورفضها الواقع، ولم تعد مسنودة بصوت عقل ولا منطق لمن يتابع حالة حقوق الإنسان اليوم في السودان، والشاهد أن عدد المعتقلين -وكان آخرهم اللواء “معاش” فضل الله برمة ناصر نائب رئيس حزب الأمة القومي ووزير الدولة بالدفاع الأسبق- قد بلغ أكثر من ثلاثمائة شخص وجميعهم من ابناء السودان الوطنيين.
الحقيقة التي لا يريدها النظام في السودان هي أن الدعم المعنوي من الخارج في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ يمثل أضعف الإيمان، ودرجة ذكية من أشكال النضال السوداني في ظل هذا التعدي الصارخ على الحريات الخاصة منها والعامة والحقوق المدنية والتجويع وسن القوانين لكتم أنفاس الشعب بالداخل وتصفية الخصوم السياسيين!.
ولكن الغالب أن السودانيين قد خرجوا من ظلمة الشك إلى نور اليقين بحثاً عن الشاطيء الأمين وخشية على ضياع وطنهم وهلاك أهلهم، وهنا حري بأنصار النظام أن يستوعبوا بأن أغلبية هؤلاء المقيمين في الخارج قد دفعوا دفعاً للهجرة والاغتراب بعيداً عن بلادهم بفعل سياسات القمع والبطش والتقتيل والتهجير القسري والفساد الممنهج، وقبل ذلك اتباع ما عرف في بدايات عهد الانقاذ بسياسة الصالح العام من أجل التمكن من مفاصل الدولة ومؤسساتها الحيوية خدمة لمشروع عقيم.
لقد آن الأوان لأنصار النظام الحاكم في السودان أن يوقفوا هذا العبث الفكري والرهان على المصطلحات الاستفزازية والابتزاز لأنه قبيح عقلاً، لا سيما وأنهم جميعاً ايضاً متضررون على المدى البعيد لو انهم يعلمون؛ والفرصة أمام الوطنيين منهم اليوم للانضمام للإرادة الوطنية الخالصة وقد حدد الشعب السوداني في غالبه بالداخل والخارج -بقلب رجل واحد وصدق- خياراته، وكيف أنه عازم على المضي قدما في تنفيذها مهما كان الثمن، ولا رجعة في ذلك لأن السودان على وشك الضياع، وإما أن يكون أو لا يكون!.
ويبقى الحل الأمثل هو القبول بالآخر ومنحه حقوقه الدستورية المشروعة على أساس المواطنة في دولة القانون والعدالة والمساواة والحريات الكاملة غير المنقوصة والديمقراطية بخصائصها التي تضمن حقوق كل الناس بلا إقصاء أو تصنيف أو عرقيات وجهويات!.
ويقيني أن المعارضة السودانية اليوم أضحت أكثر إدراكاً لحقوق الآخرين -بما فيهم أنصار حكومة الإنقاذ، لا لشيء سوى لانهم سودانيون- في دولة يحلم بها الجميع، ذلك اذا جاز لنا أن نقارن ونقرأ المشهد السوداني بالمقلوب!.