في أوائل سبتمبر أيلول توجه آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي، أحد كبار المسؤولين وكبار رجال الدين في إيران، إلى مدينة النجف المقدسة عند الشيعة في جنوب العراق.
وكان ضمن حاشيته عدد غير قليل من رجال الأمن والرئيس السابق للحرس الثوري الإيراني أقوى القطاعات العسكرية نفوذا في الجمهورية الإسلامية.
وقضى الشاهرودي (69 عاما) عدة أيام في لقاءات مع المسؤولين ورجال الدين وطلبة المدارس الدينية في محاولة لاستمالتهم وذلك بمكتبه قرب مرقد الإمام علي ذي القبة الذهبية والذي يعد من أقدس المواقع في العالم عند الشيعة.
ويقول مسؤولون عراقيون حاليون وسابقون إن هدفه هو تعزيز مكانته لخلافة آية الله علي السيستاني (87 عاما) أعلى المراجع الشيعية وأوسع الناس نفوذا في العراق.
ورغم أن الاهتمام ينصب على معركة العراق في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية فإن مستقبل البلاد قد يتوقف بالقدر نفسه على ما يدور الآن في النجف.
ولتقدم السيستاني في السن ولاستمرار الشائعات عن حالته الصحية، أصبحت مسألة خليفته أكثر إلحاحا.
وتتنافس طوائف الشيعة العراقيين لاقتناص دور في اختيار خليفة السيستاني. وتساند إيران التي يغلب الشيعة على سكانها الشاهرودي في مسعاه.
وقد يصبح الشاهرودي خليفة تختلف فيه الآراء للسيستاني. إذ يخشى كبار رجال الدين في النجف أن تحاول إيران توسيع نفوذها وينظر البعض للشاهرودي بعين الارتياب رغم أن بوسعه أن يؤسس قاعدة دعم بين الطلبة.
ولأن السيستاني باعد بينه وبين السياسة الإيرانية فقد لا يريد بعض أتباعه أن تخلفه شخصية مقربة من طهران.
وقد رفضت المصادر في النجف الحديث بشكل علني لحساسية مسألة خلافة السيستاني غير أن مسؤولا عراقيا كبيرا سابقا قال لرويترز ”الإيرانيون سيبذلون قصارى جهدهم … فالمسألة ليست دينية فقط بل أصبحت السياسة جزءا منها. وستحدد مصير العراق“.
* المناطق محل النزاع
عمدت إيران إلى توسيع نفوذها في العراق من خلال مساعدة الحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد على استعادة المناطق المتنازع عليها من أيدي الكورد.
فقد تولى قاسم سليماني قائد الوحدة المسؤولة عن العمليات خارج إيران في الحرس الثوري بنفسه مهمة إقناع بعض القيادات الوكردية بالتخلي عن مطالبتها بالمدن المتنازع عليها مثل كركوك الغنية بالنفط.
ولم تحرز محاولات الاتصال بالشاهرودي أو بالمكتب الإعلامي للحرس الثوري أو مكتب السيستاني للحصول على تعليق أي نجاح.
وإذا أمكن لإيران أن تفرض سطوتها في اختيار أكبر رجال المذهب الشيعي في العراق فسيصبح بوسعها أن تحكم قبضتها على السلطة في البلاد لسنوات قادمة.
كذلك فإن وجود رجل دين رفيع المقام في النجف متعاطف مع المصالح الإيرانية سيبدد إمكانية وجود منافس للزعيم الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي الذي يعتبر نفسه زعيما للشيعة في مختلف أنحاء العالم.
فعلى مدى سنوات ظل السيستاني، الذي اختط لنفسه خطا مستقلا عن إيران على الصعيدين الديني والسياسي، أكبر شخصية تتحدى خامنئي على زعامة الشيعة على مستوى العالم.
ونادرا ما يظهر السيستاني على الملأ غير أن قراراته لها قدسيتها عند الملايين من أتباعه الشيعة. وكانت فتواه التي دعا فيها أتباعه لحمل السلاح في وجه مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية أتباع المذهب السني هي التي أحبطت زحف التنظيم باتجاه بغداد في عام 2014.
كما استخدم السيستاني قراراته في التخفيف من حدة العنف الطائفي في العراق. وعارض انفصال إقليم كردستان العراق بعد الاستفتاء على استقلاله في سبتمبر أيلول غير أنه حث بغداد على حماية الأكراد بعد أن ظهرت تقارير عن وقوع انتهاكات بحقهم الشهر الماضي.
ويقول مسؤولون ومراقبون عراقيون إنه لولا نفوذ السيستاني لاندلعت اشتباكات بين الطوائف بل وبين الفصائل الشيعية المتنافسة.
وقال المسؤول العراقي الكبير السابق ”السيستاني ليس مجرد شخص بائس يجلس في بيت. فبإمكانه التحكم في ملايين الناس“.
وتتوقع المصادر في النجف أن يبقى السيستاني في منصبه حتى وفاته. ولا توجد عملية واضحة لاختيار من يخلفه غير أن الشاهرودي سيحتاج للحصول على تأييد عدد كبير من الشيعة العاديين وطلبة المدارس الدينية ورجال الدين الآخرين.
وليس الشاهرودي بغريب على النجف فقد ولد في المدينة لأبوين إيرانيين. وفي السبعينيات دخل السجن وتعرض للتعذيب على أيدي قوات الأمن في عهد صدام حسين بسبب أنشطته السياسية.
ثم انتقل إلى إيران بعد قيام الثورة الاسلامية ورقي إلى مناصب عليا منذ أصبح خامنئي الزعيم الأعلى عام 1989.
ورأس الشاهرودي القضاء الإيراني على مدار عشر سنوات وهو يرأس الآن مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يتولى تسوية المنازعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور وهو هيئة رقابية من الجناح المتشدد.
وفي المناسبات العامة يظهر الشاهرودي في كثير من الأحيان جالسا بجوار خامنئي.
* حشد الدعم
تمثل زيارة الشاهرودي مظهرا واحدا فقط لمدى سعي إيران لحشد التأييد لمرشحها لخلافة السيستاني.
إذ تشارك شركة مرتبطة بالحرس الثوري في مشروع تبلغ كلفته 300 مليون دولار لتوسيع مرقد الإمام علي ليصبح ثاني أكبر موقع مقدس عند المسلمين بعد الحرم المكي في السعودية.
وقال علي ألفونه الخبير في شؤون الحرس الثوري في المجلس الأطلسي ”هذه المشروعات تخلق حالة من التبعية لإيران بين مستقبلي المساعدات لأنها تعمل على دمج البنية التحتية العراقية في شبكة البنية التحتية الإيرانية“.
وأضاف ”بل إن مثل هذه الأنشطة توفر غطاء لشبكات المخابرات التابعة للجمهورية الاسلامية العاملة في العراق“.
وفي عام 2011 افتتح الشاهرودي مكتبا في النجف وبدأ يدفع منحا لطلبة المدارس الدينية. ويقول مراقبون إن هذا يمثل محاولة من جانب إيران لزيادة نفوذها.
وقال محلل عراقي على صلة وثيقة برجل الدين الشيعي طلب عدم نشر اسمه ”كانت خطوة استفزازية“.
وفيما بعد افتتح الشاهرودي مكتبين في بغداد وكربلاء. وهو يدفع منحا لآلاف الطلبة على حد قول مسؤولين عراقيين ومصادر دينية في النجف.
ويقول مراقبون إن رجال الدين يدفعون في كثير من الأحيان منحا للطلبة لكسب تأييدهم وتعزيز مكانتهم لربما يلقون قبولا فيصبحون من المراجع الدينية.
وقال دبلوماسي غربي في العراق طلب عدم نشر اسمه لأنه ليس مخولا سلطة الحديث لوسائل الإعلام ”إيران تحاول بسط نفوذها على عملية اختيار خليفة السيستاني من خلال الطلبة“.
والسيستاني هو الآن الراعي الرئيسي لطلبة المدارس الدينية الشيعية وينفق في سبيل ذلك ملايين الدولارات في العراق وخارجه. ويشرف ابنه محمد رضا على الأعمال المالية والإدارية لمكتبه.
وقال مسؤول عراقي كبير مطلع على المناورات السياسية بين رجال الدين في النجف ”تعقب الدولارات لمعرفة ما سيحدث مستقبلا. ومحمد رضا السيستاني يتحكم في المال كله“.
ويقول المراقبون أن عمل محمد رضا قد يجعله في وضع يتيح له خلافة والده غير أن انتقال المكانة الدينية من أب لابنه سيكون حدثا غير مسبوق في العرف الشيعي.
ومن أبرز المرشحين لخلافة السيستاني في النجف ثلاثة مراجع آخرين غير أنهم طاعنون في السن ولا يوجد مرشح واضح في صدارة السباق وفقا لما يقوله المسؤولون العراقيون والمصادر الدينية.
وقال الشيخ علي النجفي نجل أحد المراجع الكبرى في مدينة النجف ”لا يوجد شيء محدد للبت في هذا الأمر“.
وخلال إقامته في العراق زار الشاهرودي رئيس الوزراء حيدر العبادي في بغداد. وقال المسؤولون العراقيون إن السيستاني رفض مقابلته في النجف، لكنهم لا يتوقعون أن يستسلم الإيرانيون.