مقالات

تناقضات السياسة الدولية وعودة «داعش»

منير أديب
حذر معظم المراقبين من عودة تنظيم «داعش» إلى الواجهة من جديد سواء في الأراضي المحررة في مدينتي الرقة والموصل أو ما دونهما في مناطق تشهد صراعات مسلحة وتوترات في بعض العواصم العربية المجاورة. اعتمد هؤلاء المراقبون في أطروحاتهم على غياب الإرادة الدولية لمواجهة التنظيم الأكثر عنفاً وشراسة، والذي نجح في إقامة دولة استمرت أكثر من ثلاث سنوات قبل انهيارها في 9 كانون الأول (ديسمبر) 2017.
 
رُؤى المراقبين في عودة «داعش» لم تكن مفاجئة، لكنها تعبير حقيقي عن الخطر الذي ما زال يتهدد المنطقة العربية التي شهدت ولادة التنظيم الأكثر عنفاً في منتصف 2014، والذي يتغذى عبر عدة أوردة وشرايين ما زالت تحافظ على حياته وبقائه، في مقدمها تناقضات السياسة الدولية التي ترسم ملامح المرحلة المقبلة.
 
لا يمكن فهم ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية عقب «الربيع العربي»، وسيطرة تنظيمات متطرفة على السلطة أو جزء منها في كثير من العواصم العربية إلا من خلال سياقين مهمين، للتدليل عليهما لا بد أن نشير إلى ضعف التنظيمات الدينية التي لا يعتبر اعتلاؤها السلطة دليل قوة كما يعتقد البعض.
 
السياق الأول، التناقضات الدولية في السياسة واختلاف الرؤى التي حتماً توظفها المصالح، ويضاف إليها السياق الثاني ممثلاً في الإرادة المنعدمة للمواجهة.
 
ما يحدث في سورية واستخدام الآلة العسكرية في ضرب شعب أعزل في مدن ومحافظات بمساعدة ومساندة روسيا وفي ظل صمت أميركي لا يغيب عن مشهد أكبر له علاقة بمواجهة تنظيمات العنف والتطرف في المنطقة العربية، ما يصدر عن الأسد تجاه شعبه الأعزل الذي يعاني من هجماته البربرية طيلة سبع سنوات من القصف الجوي بالبراميل المتفجرة والغاز الكيماوي. هذه السلوكات الإجرامية هي ضمن أهم أسباب نشأة «داعش» وتمركزه في الرقة واتخاذها عاصمة له، فضلاً عن استمرارها في الممارسات نفسها المخالفة كلَّ القوانين والأعراف الدولية والإنسانية. وهو ما يبرر وجود «داعش» وغيره من تنظيمات التطرف.
 
بالعودة إلى الوراء في الذاكرة المتهالكة من أوجاع المجتمع الدولي نكتشف أن نشأة «داعش» ارتبطت بالعراق وتحديداً مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، والتي شهدت تمييزاً على أساس طائفي وعرقي ضد السّنة ولسنوات طويلة على خلفية الغزو الأميركي في 2003. وسمحت الولايات المتحدة الأميركية بتدشين نواة «داعش» وخرجت من العراق من دون أن تواجهها إلا بضربات جوية محدودة، بينما تركت الورم الخبيث لسنوات طويلة يسري في أوردة التغذية الطائفية. وفي الرقة، ازداد التنظيم توحشاً في التعامل مع المدنيين، فغدت المدينة مرتعاً للتطرف الديني بعد تطرف حكامها ومحافظيها في قتل أبناء الوطن.
 
بعيداً من الأطروحات التي أكدها الواقع السياسي بعد سنوات من الغزو الأميركي في 2003 والثورة السورية في 2011، فإن خطة نشر التطرف والإرهاب في المنطقة كانت مرسومة ومرصودة كمخرج أمام المجتمع الدولي سواء للبطش بالسنة في العراق أو للبطش بالثورة السورية، والشعب الذي خرج ليغير النظام السياسي في بلاده. تناقضات المصالح خلقت حالة من التطرف نادرة وفريدة ومعقدة في الوقت ذاته، وهنا يمكن تأكيد عودة «داعش» في ظل استمرار تلك التناقضات والإصرار على خدمة مصالح سياسية ضيقة. الدول الكبرى التي بحثت عن مصالحها السياسية واعتقدت أن «داعش» ابن البيئة العربية وأن خطره فقط يحدده الحيز الجغرافي الذي نشأ فيه، هي واهمة، فخطر «داعش» يهدد العالم والإنسانية، وخطر التنظيم الذي يرى لذته في القتل والتمثيل بجثث خصومه لن يتخلى عن حلم السيطرة والقتل حتى في قلب أوروبا ذاتها. وهذا جزء من خطى التمدد التي يعمل عليها التنظيم. وعلى هذه الدول أن تعمل لمواجهته من باب المصلحة، وألا تقف أمام المحاولات العربية للمواجهة، بل لا بد أن تكون داعمة لها.