سعد ناجي جواد
تحل في يوم ١٥ يناير الذكرى المئوية لولادة القائد الراحل الخالد جمال عبد الناصر، الذي فجعت الغالبية العظمى من الجماهير العربية بوفاته في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠وهو في سن مبكرة ( لم يكمل ٥٣ عاما من عمره). ومن المفارقات القدرية العجيبة ان في مثل هذا اليوم عام ١٩٦١ وقعت فاجعة الانفصال السوري عن اول تجربة وحدوية في العصر الحديث،الجمهورية العربية المتحدة، وكان هذا اليوم باعتراف عبد الناصر نفسه من أسوأ ايّام حياته حتى ذلك التاريخ، طبعا في عام ١٩٦٧ وقعت الفاجعة الأكبر في حياة عبد الناصر والتي تمثلت في الهزيمة الكارثية للجيوش العربية المهلهلة وعلى رأسها الجيش المصري، امام الجيش الاسرائيلي. وهي الكارثة التي يؤكد كتاب سيرة الرئيس الراحل بأنها كانت البداية لنهاية حياته عندما وجد ان كل ما بناه وعمل من اجله قد انهار امام عينيه، وبسبب خطأه في الاعتماد على أشخاص غير كفوئين وغير مؤهلين لقيادة العمليات العسكرية ويقف على رأسهم المرحوم المشير عبد الحكيم عامر رفيق دربه النضالي. ولولا الهبة الشعبية الكبرى التي اعادت عبد الناصر بعد استقالته في تلك اللحظة والتي بعثت الأمل والتحدي في نفسه مرة اخرى لانتهت حياة الرجل منذ ذلك الحين. ولقد اثبت قدرة عالية في اعادة الأمل في أبناء أمته والاهم في جيشه.
لقد اختلف العرب حول عبد الناصر، كما اختلفوا في تقييم شخصيات عربية اخرى، فمنهم من احبه الى حد التغاضي عن كل أخطائه ومنهم من ظل يتسقط هذه الأخطاء ليومنا هذا من اجل تشويه صورته وذكراه في نفوس الجماهير العربية. وبالتاكيد كان للرجل اخطاءا كثيرة لعل أهمها هو فشله في ارساء ديمقراطية حقيقية وفِي تسليط اجهزة الامن والمخابرات على رقاب الناس في مصر، وموصول بذلك الفشل في بناء دولة موسسات، كما ان تصادمه المبكر مع الثورة في العراق افقد الجمهورية العربية المتحدة قطبا عربيا متحررا ومهما هو العراق، علما ان هذا لم يكن خطاءه لوحده، وتتحمل القيادة العراقيةجزءا كبيرا من المسؤولية . الا ان كل هذه الأخطاء ومتسقطيها لم يتمكنوا من الانتقاص من نهجهه الاستقلالي والعروبي والمتحدي للمشاريع الصهيونية والاستعمارية. لقد ظهر هذا الشاب في مصر، البلد الأكثر كثافة من حيث السكان والذي يقع في قلب الوطن العربي. واستطاع في فترة وجيزة ان يجعل من القاهرة منارة الحركة القومية العربية، بل وكل حركات التحرر العالمية وخاصة العربية منها والافريقية، واستطاع ان يحيي الكرامة والاعتزاز بالانتماء الى الأمة العربية لدى الغالبية العظمى من الشعوب العربية المسحوقة. وامم قناة السويس وانتصر بصموده في افشال العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، وبنى السد العالي وحقق الإصلاح الزراعي وانهى الإقطاع، وأسس نهضة صناعية جعلت المعامل المصرية تنتج كل شيء، والاهم من ذلك حقق مجانبة التعليم وافتتح الجامعات والمعاهد المهنية، التي كان خريجوها يجدون وظائف لهم ولا يحتسبوا عاطلين. وبعد نكبة حزيران صحح مسار بناء القوات المسلحة وتمكن من بناء جيش قوي ومدرب وكفوء استطاع ان يحقق نصرا كبيرا في أكتوبر ١٩٧٣، وكان بمكن لهذا النصر لو استثمر بطريقة صحيحة ان يعيد الكيان الصهيوني الى المكانة التي يستحقها. والاهم من كل ما قيل أعلاه، وما يحاول السيئين ان يرجوه عنه، الا ان الرجل تمتع بعفة نادرة وطهارة ذيل لا يرقى لها الشك، ليس ذلك فقط ولكن هذه النزاهة جعلته يقسو حتى على مقربيه الذين كانوا يحاولون استغلال صلة القربى معه. ولعمري فان هذه الصفة وصفات العزة والكرامة واحترام الذات والوطن وأبناءه ، وعدم الرضوخ لاوامر خارجية، ورفض التعاون او القبول بالكيان الغاصب في فلسطين ورفض التصالح معه حتى في أشد أوقات ضعف حكمه بعد ١٩٦٧ هي ما تجعل الجماهير العربية، وخاصة الكادحة والمسحوقة تترحم عليه بصدق و تسوقه كمثل لما يجب ان يكون عليه الحاكم العربي الوطني .
في نقاش لي مع اخ عزيز حول موقف مؤلم وقفه من هو محسوب على الرئيس الراحل وفِي قضية عربية مصيرية كان الراحل من اكثر المدافعين عنها، قال لي ان الرجل كان فلتة وكان سابقا لأوانه و بالتالي فان كل المقربين منه لا يستطيعون ان يقفوا مواقفه الشامخة. لقد كانت مصر و ما تزال مؤشر وحادي الركب العربي، وفِي زمن عبد الناصر سارت بهذا المسار نحو التحرر ومحاربة الاستعمار والصهيونية والاعتماد على الذات، وبعده فان مصر قادت العرب الى الصلح مع اسرائيل والقبول بالتبعية الأجنبية، ناهيك عن غض الطرف عن القضايا العربية المصيرية. ولهذا كله ستظل غالبية الجماهير ، المصرية بصورة خاصة والجماهير العربية بصورة عامة، تحمل في داخلها مشاعر المحبة والتقدير والاعتزاز بهذا القائد الخالد، وتتطلع آلى نموذج مشابه يخرجها من وضعها الماساوي.