مقالات

جولة اليوم الواحد: من “حميميم” إلى القاهرة ثم أنقرة.. ماذا حمل “بوتين” في حقيبته؟

عماد عنان


الرئيس التركي خلال استقباله نظيره الروسي أمس الإثنين

عكست جولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المكوكية، لمنطقة الشرق الأوسط، أمس الإثنين 11 من ديسمبر/كانون الأول، تمدد النفوذ الروسي في المنطقة بصورة غير مسبوقة على حساب نظيره الأمريكي الذي يعاني من انكماش خلال الفترة الأخيرة.

إفطار سوري داخل قاعدة حميميم السورية بحضور بشار الأسد، قبل التوجه لتناول الغداء مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في القاهرة، مختتمًا بقبول دعوة العشاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة، ليعود بعدها الرئيس الروسي إلى بلاده.

زيارة اليوم الواحد التي قام بها بوتين تأتي في ظل أجواء مشحونة ضد الولايات المتحدة الأمريكية جراء قرار رئيسها نقل سفارة بلاده إلى القدس والاعتراف بها كعاصمة لدولة “إسرائيل” وهو ما أعطاها زخمًا قويًا خاصة بعد تصريحاته التي أدان فيها قرار نظيره الأمريكي.

رغم ما تعكسه محطتا حميميم والقاهرة من أهمية محورية في زيارة الرئيس الروسي غير أن المحطة التركية تعد الأبرز والأهم خاصة أنها تأتي قبل يومين من انعقاد قمة إسلامية دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتصدي للقرار الأمريكي.

لماذا حميميم؟

استهل بوتين جولته بزيارة قاعدة حميميم الجوية في منطقة اللاذقية شمال سوريا، تلك القاعدة التي كانت تعد مسرح العلميات للقوات الجوية الروسية طيلة العامين الماضيين، حيث كان في استقباله، رئيس النظام السوري بشار الأسد، وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وقائد مجموعة القوات الروسية في سوريا الفريق أول سيرغي سوروفكين.

اختيار الرئيس الروسي لتلك القاعدة ليستهل بها زيارته أمر طبيعي ومنطقي في آن واحد، كونها صاحبة الكلمة العليا في تحقيق الأهداف الروسية داخل سوريا، والتي أعادت موسكو للوجود الإقليمي مرة أخرى بعد سنوات من الانكماش والعزلة.

الزيارة هدفت إلى التلويح بتحقيق موسكو لأهدافها من وراء التدخل العسكري، ومن ثم الإعلان عن إنهاء مهام الغالبية العظمى من قواتها في سوريا، وذلك بعد أن أعلن بوتين “أن المُهمّة قد أُنجزت” ومن ثم فلا حاجة لوجود هذه العناصر مع الإبقاء على بعض منها دون تحديد هويتهم وعددهم بصورة دقيقة.

البعض في تحليله لهذا القرار الذي أعلنته موسكو منذ عام تقريبًا ليدخل حيز التنفيذ الجزئي بالأمس، ذهب إلى أنه يحمل رسالة واضحة لواشنطن تضعها في موقف حرج أمام شعوب الشرق الأوسط، خاصة إذ ما تمت المقارنة بين التدخل العسكري الروسي في سوريا والتدخل الأمريكي في العراق.

موسكو تسعى لتدشين علاقة جديدة مع القاهرة تتماشى مع أطماع بوتين في المنطقة، مستغلة في ذلك الثقل الإقليمي لمصر – حتى وإن تراجع خلال السنوات الأخيرة – والذي يمثل حجر زاوية مهم في كثير من ملفات المنطقة

ففي أبريل/نيسان 2003 أعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، أن “المهمة أنجزت” بعد تدخله في العراق بدعوى امتلاكها لأسلحة نووية، غير أن الانتصار المزعوم الذي ادعاه حينها قوبل بهزيمة نكراء على أيدي المقاومة العراقية في كثير من الأوقات طيلة الفترة الماضية، ورغم إعلانه إنهاء مهمته، فإن قواته لا تزال موجودة تفرض سيطرتها على الشأن الداخلي بصورة كبيرة.

الرئيس الروسي أراد من خلال سحب قواته من سوريا أن يغازل شعوب المنطقة – كما ذهب عدد من المحللين– بالإفصاح عما أسماه البعض “الدبلوماسية المدعومة بالقوة العسكرية” حين أعلن مسبقا أن تدخله العسكري في روسيا بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” متعهدا بإنهاء مهمته فور تحقيق أهدافه، وإن كان مشهد منع بشار الأسد عن طريق أحد الضباط الروس من مرافقة بوتين خلال مغادرته للقاعدة العسكرية يلخص وبصورة كبيرة حقيقة التعاطي الروسي مع الملف السوري ونظامه الحاكم.

ورغم التقارير التي تشير إلى أن هدف موسكو من التدخل السوري كان دعم نظام الأسد ضد فصائل المعارضة، وأن محاربة تنظيم الدولة كان غطاءً لتبرير تدخله غير القانوني، وهو ما كشفه تحليل وكالة “رويترز” لبيانات وزارة الدفاع الروسية التي توصلت إلى أن أكثر من 80% من عمليات القصف الروسي لم تكن تستهدف “داعش” في مقابل تعبيد الطريق أمام نظام الأسد لفرض سيطرته واستعادة قوته مرة أخرى، فإن التزام الكرملين بقرار سحب قواته ربما يبعث برسالة إيجابية لحكومات وشعوب المنطقة حول توجهات روسيا حيال منطقة الشرق الأوسط، خاصة إذا ما قورنت بالسياسة الأمريكية التي تفقد يومًا تلو الآخر حلفاءها في المنطقة.

استئناس القاهرة

لم يكمل بوتين في القاعدة السورية سوى ساعات قليلة، مغادرًا على طائرته الخاصة متوجهًا إلى القاهرة، حيث محطته الثانية في جولته الخاطفة، كان في استقباله بالمطار نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، ناقشا عددًا من الملفات على رأسها العلاقات الثنائية بين البلدين.

شهدت الزيارة القصيرة توقيع عدد من الاتفاقيات بين البلدين أبرزها اتفاقية مشروع “الضبعة” النووي، التي أصرت الرئاسة المصرية على تمريرها رغم التحفظات التي قدمتها بعض الجهات الحكومية والأمنية والقضائية على بعض بنود العقود التي تهدد مستقبل الأجيال القادمة سواء فيما يتعلق بزيادة معدلات الديون الخارجية خاصة أن كلفة إتمام المشروع تبلغ 29 مليار دولار، فضلاً عن الآثار البيئية والصحية المدمرة الأخرى، هذا بخلاف تهديدها للأمن القومي المصري في كثير من الحالات، وقد أفرد “نون بوست” لهذه المسألة تقرير خاص بها.

اختيار الرئيس الروسي لتلك القاعدة ليستهل بها زيارته أمر طبيعي ومنطقي في آن واحد، كونها صاحبة الكلمة العليا في تحقيق الأهداف الروسية داخل سوريا

بهذه الاتفاقية وما سبقها بشأن السماح بفتح المطارات والقواعد الجوية والأجواء المصرية أمام الطائرات الروسية والعكس والحديث عن استئجار روسي لقاعدة جوية في منطقة سيدي براني غرب الإسكندرية، قرب ساحل البحر المتوسط، تكون موسكو قد نجحت في وضع موطئ قدم لها داخل مصر يساعدها في تحقيق أهداف عدة كانت بعيدة المنال خلال الفترة الماضية، على رأسها الاقتراب من المشهد الليبي وإحياء دور الاتحاد السوفيتي قديمًا، كذلك تهديد حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي يمثل حجر عثرة أمام تمدد النفوذ الروسي سواء في شرق أوروبا أو شمال إفريقيا.

وفي مقابل هذه الامتيازات التي حصل عليها الجانب الروسي، فإن الأمر بالنسبة للقاهرة مختلف بصورة كبيرة، إذ أن الزيارة التي لم تستمر سوى بضعة ساعات لم تخرج بأي نتائج تذكر عكس ما كان يتوقعه الجانب المصري الذي استعد لهذه الزيارة بصورة كبيرة، بدءًا بتعبيد الطريق أمام 3 مشروعات متعلقة بالتعاون مع الروس في مجال الطاقة النووية، تم تمريرهم مرة واحدة في جلسة عامة طارئة لمجلس النواب في 27نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، في الوقت الذي لم يناقش أو يصدق حتى الآن على اتفاقية القرض الروسي البالغ قيمته 25 مليار دولار لتمويل المشروع، رغم توقيع رئيس الجمهورية على اتفاقية القرض في إبريل 2016 ونشرها في الجريدة الرسمية في الشهر التالي.

ورغم تهليل الإعلام المصري بشأن دخول اتفاقية مشروع “الضبعة” النووي حيز التنفيذ، فإن البيان الصادر عن الكرملين بشأن زيارة الرئيس الروسي للقاهرة لم يتضمن أي إشارات إلى توقيع عقود الضبعة أثناء الزيارة، مكتفيًا بالإشارة إلى أن برنامج الزيارة سيتناول «تعزيز العلاقات الثنائية في مجالات السياسة والتجارة والاقتصاد والطاقة والشأن الإنساني»، إضافة إلى «استقرار وأمن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا».

أما بخصوص استئناف الرحلات الجوية الروسية المتوقفة منذ سقوط الطائرة في سيناء، أكتوبر/تشرين الأول 2015، فإن بوتين ألقى بالكرة في ملعب الجانب المصري، حين طالبه بالتوقيع على البروتوكول الحكومي الروسي المتعلق بأمن المطارات، كخطوة نحو عودة الطيران فبراير 2018، وهي ليست المرة الأولى التي يتعهد فيها الجانب الروسي باتخاذ إجراءات لرفع الحظر عن الرحلات للقاهرة.

ولم يختلف الأمر كثيرًا فيما يتعلق بالمنطقة الصناعية الروسية، إذ أوضح السيسي أنه ونظيره أصدرا توجيهات للوزراء المعنيين بمواصلة المفاوضات المتعلقة بإنشاء المنطقة الصناعية الروسية في مصر، بينما لفت بوتين في كلمته إنه من المنتظر أن يبلغ حجم الاستثمارات سبعة مليارات دولار، دون الاتفاق على آليات محددة لبدء التنفيذ الفعلي لهذا المشروع.

مساعٍ روسية لتوظيف علاقتها بالقاهرة لإحياء أمجاد الاتحاد السوفيتي

تركيا المحطة الأهم

ثم تأتي المحطة الثالثة والأخيرة للرئيس الروسي، أنقرة، ولقاءه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث تناولا العديد من القضايا على رأسها ملف القدس، وتبعات قرار ترامب بالاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة لدولة الاحتلال، وهو ما حذر منه بوتين في تصريحاته.

تعد المحطة الأخيرة في جولة الرئيس الروسي هي الأكثر أهمية مقارنة بالمحطتين السابقتين، وذلك لعدة أسباب، لعل منها أنها جاءت قبل ساعات من انطلاق فعاليات القمة الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي التي دعا إليها أردوغان، لبحث قرار ترامب وكيفية التصدي له، كذلك التطور الملحوظ في العلاقات بين موسكو وأنقرة في الفترة الأخيرة الذي قوى وبصورة واضحة من موقف الأخير في المشهد السوري.

كما أن لموسكو دورًا محوريًا في تقريب وجهات النظر بين تركيا وإيران، وجمعهما معًا تحت قيادة روسية في سوتشي في قمّةً رَسمت خريطةً جديدةً لتحالفات منطقة الشرق الأوسط، هذا في مقابل موقف الرئيس التركي الرافض بشدة لقرار ترامب، واتهامه للولايات المتحدة بدعم الإرهاب، وتهديده بقطع العلاقات مع دولة الاحتلال، وهو ما يصب في نهاية الأمر في صالح التقارب الروسي التركي.

الكرملين يقدر الدور الإقليمي لأنقرة وقدرته على إحداث الفارق حال دخوله في تحالف مع روسيا، بجانب إيران وسوريا والعراق، وفي حال انضمام مصر، في مواجهة تراجع لافت للنظر للنفوذ الأمريكي شرق أوسطيًا.

بوتين يصرح بأن الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” يصب الزيت على النار

مغازلة الداخل الروسي

زيارة بوتين للشرق الأوسط تأتي بعد خمسة أيام فقط من إعلانه الترشح لخوض الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 18 مارس/ آذار 2018 في محاولة لتوصيل رسالة اطمئنان للداخل الروسي بشأن نجاح السياسة الخارجية له خلال فترة ولايته الحالية.

الرئيس الروسي يسعى إلى مغازلة الناخبين الروس من خلال انتصار – حتى ولو كان زائفًا – في معركته في سوريا، هذا بخلاف قرار سحب قواته الذي طالما أعلن عنه أكثر من مرة إلا أنه أجل تنفيذه لما قبل الانتخابات الرئاسية كورقة يمكنه استخدامها في تصدير نفسه كونه الرئيس الذي يخاف على أرواح جنوده من جانب ويسعى لتقليل النفقات العسكرية خارج حدوده من جانب آخر.

فأمام الإخفاقات الاقتصادية التي يعاني منها الشعب الروسي خلال السنوات الأخيرة في ظل الأزمات التي تعصف بالمناخ الاقتصادي العالمي، بات الملف الخارجي هو الأكثر حضورًا أمام بوتين لتسويق نفسه من خلاله حتى ولو كان ذلك محل تشكيك من العديد من المراقبين للتحركات الروسية في المنطقة.

بوتين في مواجهة ترامب

في مقارنة سريعة بين بوتين وترامب فيما يتعلق بالإستراتيجية المتبعة في التعامل مع شعوب الشرق الأوسط، يلاحظ أن الرئيس الروسي استطاع كسب وتأييد تعاطف الملايين في العالمين العربي والإسلامي، خاصة بعد إعلانه موقفه من قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة، وإن كان لا يعدو كونه شو إعلامي ليس أكثر.

وفي المقابل نجح الرئيس الأمريكي في توسيع دائرة كراهية الشعوب العربية والإسلامية له جراء سياساته المناهضة للعرب والمسلمين منذ حملته الرئاسية وحتى قرار السادس من ديسمبر/كانون الأول الأسود، وهو ما انعكس بصورة أو بأخرى على حلفاء أمريكا في المنطقة.

موقف الرئيس التركي الرافض بشدة لقرار ترامب، واتهامه للولايات المتحدة بدعم الإرهاب، وتهديده بقطع العلاقات مع دولة الاحتلال، يصب في نهاية الأمر في صالح التقارب الروسي التركي

موقف حرج أوقع فيه ترامب حلفاءه العرب بقراره الأخيرة، ساهم في زيادة عزلتهم ووضعهم في موقف الدفاع عن النفس أمام سيل الاتهامات التي يواجهونها إما بالخيانة والتطبيع مع دولة الاحتلال والتآمر لتمرير هذا القرار كما كشفت بعض المصادر الفلسطينية لوكالة “رويترز” وإما بسبب دعم الاقتصاد الأمريكي بمئات المليارات المقتطعة من قوت الشعوب العربية لصالح واشنطن التي تخصص جزءًا منها لدعم تل أبيب وتوجهاتها حيال الشعب الفلسطيني.

الشواهد جميعها تشير إلى انتصار نسبي للدب الروسي وحلفائه، على الولايات المتحدة ومحورها، وهو ما قد يدفع إلى مزيد من التحالفات الروسية مع دول الشرق الأوسط، بما يقوض النفوذ الأمريكي ويهدد مصالحه الإقليمية، وتبقى الأيام القادمة حبلى بملامح جديدة ربما تعيد رسم خارطة المنطقة وفق استراتيجيات مغايرة خاصة إن أصرت واشنطن على المضي قدمًا في سياساتها المعادية للعرب والمسلمين وهو ما توظفه موسكو لصالحها بصورة جيدة.