محمد بدر الدين زايد
الملاحظ أنه كلما تمَّت تسوية ما مع أي تنظيم إرهابي، عبر تفاوض اضطراري، تثار تساؤلات حول مدى ملاءمة هذا النوع من التفاوض. وسيجد المرء أن هذه القضية لم تشغل الساسة والحكومات فحسب، وإنما كانت محل إسهامات فكرية وأكاديمية ضخمة من أكثر من فرع دراسي، بل إن هناك فيضاً ضخماً من الدراسات القانونية والسياسية في هذا الصدد، وأن الأمر ليس محل الإجماع السياسي والفكري الذي يتصوره بعضهم، خصوصاً من جانب هؤلاء الذين يرفضون من حيث المبدأ التفاوض مع الإرهابيين. هؤلاء يسوقون حججاً عدة؛ من أبرزها عدم التنازل للعنف، وعدم مكافأة الإرهابيين وعدم إعطاء شرعية لهم ولوسائلهم بما يعوق الاستقرار وتماسك الدول. أما الذين يطرحون آراء مغايرة، فيشيرون ببساطة إلى أن الحكومات والمؤسسات والأفراد يفعلون هذا في الممارسة العملية. ويبررون ذلك بأن الحوار يجب أن يكون جزءاً من حل الصراع. ولعل من أهم المدافعين المفاوض الشهير جوناثان باول الذي قاد الوفد البريطاني في مفاوضات إنهاء الصراع في إرلندا، وطرح آراءه الخطيرة في هذا الصدد ومن بينها مقال له في «أتلانتك ديلي» في 7 كانون الأول (ديسمبر) 2015.
في هذا المقال ناقش باول تحديداً مسألة التفاوض مع «داعش»، معتبراً أن ذلك التنظيم مثله مثل منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الإرلندي الحر؛ وهي مشابهة غير أمينة ومهينة. استهل باول حديثه بالتذكرة بما قاله رئيس الوزراء البريطاني السابق عام 1919 عن عدم إمكان التحدث والحوار مع عصابات المقاومة الإرلندية، ثم دخل بعدذاك بعامين إلى مفاوضات مع قائد الجيش الإرلندي، أسفرت عن استقلال إرلندا، كما أشار إلى مفاوضات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى رغم إقراره بوجود فوارق مهمة بين «داعش» والنموذجين الأخيرين فقد ركز فقط على مستويات العنف، وخلص إلى ما وصفه بضرورة التعلم من التاريخ والبحث عن حل لمخاطبة أسباب المعاناة التي تسبب هذه الظواهر وحدَّدها في المعاناة في أوساط السّنة العراقيين والسوريين، بل طرح أفكاراً حول نوع من الحكم الذاتي لهذه المجتمعات. وفي الواقع، إن طرح باول سابق الذكر هو طرح ضعيف للغاية وتفنده التطورات الأخيرة في سورية والعراق، كما أنه لا يستند إلى منطق متماسك، وأسوق هنا بعض الخطوط العريضة في هذا الصدد.
الحقيقة أنه لا يمكن البدء بنقاش جاد حول هذه القضية من دون البدء بالبعد الأكثر خلافية وإثارة للجدل وهو تعريف الإرهاب؛ الذي لا يزال محل تباينات سياسية وقانونية عميقة. فعبر التاريخ كان دعاة الاستقلال مدموغين بالإرهاب من جانب السلطة المهيمنة على مجتمعاتهم، ويصبحون أبطالاً ومناضلين إذا تمكنوا من تحقيق أهدافهم السياسية، ويستمرون مدموغين بالإرهاب إذا لم يتمكنوا من تحقيق نصر. في هذه الحالات، يصبح الحديث عن تسوية سياسية وحوار في موضعه الذي يتفق مع حديث باول عن دروس التاريخ التي ليس من الحكمة تجاهلها أو تحديها. وهو ما ينطبق بوضوح على الشعب الفلسطيني وطبعاً الكثير من الشعوب الأخرى التي نالت استقلالها عبر حركات سياسية مارسَت أنماطاً من العنف المسلح. أما ما ذكره باول عن البيئة السّنية المحبطة في سورية والعراق، فهو ما يفسر جزئياً نجاح «داعش» في اجتياح مساحات واسعة من أراضي الدولتين. إلا أن تراجع «داعش» الآن وبدعم سني في البلدين يشير إلى أن ما حدث كان ناتجاً من حالة عارضة من الالتباس وعدم وضوح الرؤية التي أصابت المنطقة والبلدين نتيجة تأثير أسباب داخلية وخارجية لن نخوض في تفاصيلها الآن. وهذا لا ينفي أن القضاء على ظاهرة «داعش» وغيرها من التنظيمات الملتبسة باسم الدين يحتاج إلى مواجهة شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبالطبع دينية. ولكن الإشكال الرئيس أن نمط ومستويات العنف المتداخلة مع رؤية أيديولوجية بالغة الضيق، فضلاً عن عمق التوظيف السياسي الداخلي والخارجي لهذه الظاهرة تجعل من أي تنازلات تحصل عليها هذه التنظيمات خسارة استراتيجية لفكرة الدولة والاستقرار فيها. إذ أثبتت التجربة التاريخية أيضاً أن هذه التنظيمات لم تتحول إلى الاعتدال بالحوار معها أو بالسماح لها بحرية الحركة السياسية، والتطورات التي عرفتها مصر في ما سمي بالمراجعات والحوار في التسعينات ثبتَ في معظم حالاتها زيفها وهشاشتها، فسرعان ما اصطفت هذه العناصر مرة أخرى في ممارسات عنف واعتداء وإرهاب.
وهنا مرة أخرى لا نجادل في ضرورة معالجة ظروف التهميش التي تعرض لها السنة في العراق وسورية كأمر ضروري لتقليص استمرار عملية التجنيد لعناصر جديدة، إلا أن قيادات هذه الجماعات لا يمكن أن تتحول إلى الاعتدال والمرونة بالحوار معها سواء كان أتباعهم بالعشرات أم بالألوف. ذلك أن البنية الفكرية لكل هذه التنظيمات منذ البذرة التي زرعتها أفكار سيد قطب «الإخواني» تجعل من فكرة الحوار معها وتحويلها للاعتدال أحد الأوهام الكبرى التي رددها بعض الأوساط العربية والغربية، وأثبتت الوقائع عدم صحته.
البعد الثاني هو أنه على رغم الاتفاق القانوني والسياسي حول مسألة طبيعة الفعل الإرهابي، إلا أنه من الواضح على الأقل في عالم اليوم أنه لا تسامح مع أنواع معينة من ممارسات العنف حتى لو صدرت من أصحاب قضية عادلة، وهو ما أصبح ينطبق على غالبية حالات استهداف المدنيين، والتي تمثل النسبة الأكبر من عمليات «داعش» و «القاعدة» التي بالمناسبة لم تستهدف إسرائيل أبداً التي لا يزال بعضهم يتحدث عن أنها أحد أهم روافد ظاهرة «داعش» وهو ربما صحيح ولكن في شكل مغاير لما يطرحونه.
المعيار الرئيس في دراسات التفاوض هو ناتج هذا التفاوض، فإذا كان يهدف إلى تقليص أخطار أو عنف معين أو إذا حقق مطالب إنسانية كإفراج عن رهائن خصوصاً إذا كانوا من المدنيين، ومن دون أن يحقق مكاسب سياسية أو مادية للتنظيمات الإرهابية، فإن هذا الحوار هو خيار رشيد ومناسب. أما إذا نجحت هذه التنظيمات بخاصة من نوعية «داعش» بكل ما يحيط بها وقياداتها من تساؤلات في اقتناص مكاسب من هذه المفاوضات والحوار معها، فسيعني هذا مزيداً من احتمالات العنف والعمليات الإرهابية. ومن غير المناسب أن نسمح بمشابهات بين حالات التفاوض مع الحركات الوطنية- حتى لو مارست العنف- وبين هذه التنظيمات الظلامية.