مقالات

خريف سياسي 

نوزاد حسن

احب فصل الخريف لكني لا اعثر عليه في بغداد كما عثرت عليه ذات يوم بدمشق قبل الحرب التي دمرت سوريا.كنت اسير من ساحة السبع بحرات قاصدا سوق الحلبوني وموزعا نظراتي بين الابنية التي تزيدها جمالا اشعة الشمس المصبوغة بصفرة زعفرانية رائعة.وكانت ظلال الاشجار ترتسم على الارض في مشهد يحرك ذاكرتي بقوة كي تعود الى الوراء. في الخريف تتنشط فضاءات ذاكرتي فيشتعل الحزن الخريفي في قلبي كجمرة ناصعة. وما اكسبه هو اني ابدأ بقراءات محددة مثل قصص تشيخوف وبعض قصائد البريكان. وهكذا اتمرن جيدا على اكتشاف منحنيات الواقع. واحاول التقاط ادق همسات صمت الماضي كما لو كنت انا جسد الماضي كله وذاكرته ايضا. ربما سيقول احد انك اليوم لا تريد ان تكتب في السياسة وانا اجيب كيف لا اكتب في السياسة وانا اريد الحديث عن خريف مغلق، بمفتاح السياسة الفولاذي.لقد تغير جوهر خريفنا بعد ان هبت عليه عاصفتان شديدتان فدمرتا عذوبته كفصل يهيئ لانقاذنا من يد الصيف الساخنة. صنعت السياسة من الخريف فصلا ذابلا بكل معنى الكلمة،فسقوط اكثر من ثمانين شهيدا في الناصرية وانشغال الجميع باستفتاء اقليم كردستان كانا علامة على ابتعادنا عن انفسنا وغوصنا في لعبة ساخرة ترسمها السياسة بلون اسود. اذن لهذا الخريف حزنه العميق الذي لا يمكن لاحد ان يتجاهله او يتناساه.ان منظر نعوش شهداء العملية الارهابية في الناصرية ،جعلني افكر في معنى انشغال السياسيين وغير السياسيين بقضية الاستفتاء دون الانتباه الى حضور الموت في ذلك المشهد الذي عرضت من خلاله عشرات النعوش الملفوفة بالعلم العراقي في احد شوارع الناصرية. هكذا تهذب السياسة حياتنا وتفتح مداركنا وذوقنا على صور لضحايا سقطوا بلا ذنب ولكي تكون السياسة مؤثرة جدا فانها تجعل الجميع ينشغلون بالاستفتاء، متناسين تلك القافلة التي حملت اوجاعها الى القبور.وقد كنت اتمنى ان تقوم الحكومة باعلان الحداد جراء ما حصل من جريمة لم تاخذ حقها من الاهتمام والتعاطف. قلت اني التقيت بخريف الطبيعة في دمشق وكنت التقيه كثيرا في دهوك حين تكون شمس الضحى الصفراء، عاملا في زيادة بهاء الجبل وسفحه.ومع ذكرى الصور الطبيعية تقحم الاوضاع والمشاكل السياسية عالما مصنوعا من موت احمر ليشوه عذوبة اشهر ما قبل الشتاء. لذا انا احس بانكسار كبير لاني لا افهم من هذه الايام الا ترك الاهم في سبيل الاقل اهمية.وعلى هذا الاساس علينا ان نقف اجلالا للضحايا دون ان ننسى اسلوبنا في معارضة الاستفتاء،لكن ما حدث هو ان نقاش السياسة انتصر على فعل الطبيعة وحضور موتها كعنصر يهذب روح الانسان. ولم يكن هناك موقف يدعم الحياة التي تحولت الى مشهد سياسي تتصاعد لهجة التهديد فيه والتلويح بالحرب التي تقهر كل شيء من اجل لا شيء لا شيء على الاطلاق.