مقالات

«روسيا ليست كافرة»: كيف تحول التدخل الروسي في سوريا إلى معركة مقدسة؟

زيد صافي

دول العالم على الأرجح، ولكلّ سلطان وحاكم رجالُ دين يسهّلون مهمته ويطوّعون الدين لخدمته بوعي أو بدون وعي. ماذا عن الحالة الروسية؟

الأديان في روسيا
هناك اختلاف بين أعداد المؤمنين بالديانات، وبين أعداد المُمارسين الفعليين لها. وهذا رسمٌ بياني يوضّح توزّع الديانات على سكان روسيا.

أمَّا المُمارسون للتدين، بناء على بيانات وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)، فكانوا كالتالي: الأرثوذكسيون بين 15-20%، والمسلمون بين 10-15%، ومسيحيون بمذاهب أخرى 2%.

المسيحية في روسيا.. مِن أين؟
كانت البدايات البسيطة للمسيحية في روسيا في عام 867، أما البداية الفعلية والقوية فكانت في ظلّ حكم «فلاديمير العظيم»، أو فلاديمير الأول، الذي كان أميرًا لكييف حينها 988م.

حاول فلاديمير أن يُعيد صياغة الوثنيّة السائدة حينها، وأقامَ معبدًا لآلهة الرعد، «بيرون»، ولكن محاولاته لم تنجح، فقرّر التحوَّل إلى ديانة توحيدية، وتذكر روايات تاريخية مُختلقة أنّه رفض الإسلام لتحريمه الخمر، معللًا ذلك بأنَّ «متعة الشعب الروسي في الخمر»، واختار المسيحية، التي اعتنقتها أمه مسبقًا، مما أدى لتوطَّد علاقته بالبابا، وبالحكام الأوروبيين ونشطت تجارة دولته، ويُعتقد أن هذا سبب اختياره للمسيحية، ولحماية دولته بدعمٍ أوروبي من خطر المسلمين.

فلاديمير: الأول وبوتين
يا تُرى ما أوجه الشبه بينَ الأوّل والثاني؟

فلادمير بوتين، الرئيس الروسي الذي يتبع للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتربطه بها علاقات واضحة ومثيرة للتساؤل.

في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، دشَّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تمثالًا لفلاديمير الأوَّل في وسط العاصمة موسكو، وقال وهو واقفٌ بين يَدي بطريرك العاصمة وسائر روسيا:«إن الأمير فلاديمير وضع أسسًا للقيم الأخلاقية التي لا تزال تحدد منهج حياة الشعب الروسي حتى الآن»، داعيًا إلى مواجهة الأخطار والتحديات المعاصرة بالاعتماد على تقاليد الوحدة والوفاق.

الرئيس فلاديمير بوتين مع رئيس وزرائه دميتري ميدفيديف ويتوسطهما بطريرك روسيا كيريل يقفون أمامَ تمثال فلاديمير الأول RT
تناقضات البطريرك تجاه التدخل العسكري في سوريا
ثارت نقاشات ومفاوضات حول توجيه ضربة عسكرية أمريكية لسوريا، وذلك في أواخر أغسطس (آب) 2013 وبدايات الشهر الذي يليه، وبعد هذه الزوبعة بقليل، وفي ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أرسلَ بطريرك روسيا «كيريل» رسالةً موجهةً لأوباما، مُتضامنًا بقوله «نحن نعتبر آلام ومعاناة الشعب الأمريكي الذي عانى الهجمات الوحشية في 11 سبتمبر 2001 كأنها خاصة بنا»، ثم يدعوه بعد ذلك أن يستجيب لموقف «الزعماء الدينيين» الذين كانوا «ضد التدخل العسكري -الأمريكي- في الأزمة السورية»، وكرّر رفضه للتدخل العسكري الخارجي ثمَّ قال: «بدون أي شك سيجلب هذا معاناة أكثر للشعب السوري، وقبل أي شيء للسكان الآمنين».

لكن، لماذا تغيّرت وجهة نظر البطريرك عن التدخل العسكري الخارجي؟ فعند بدء العمليات العسكرية الروسية في سوريا، (تدخل عسكري خارجي)، علَّق البطريرك تعليقًا جريئًا يقول فيه أنَّ القتال هناك «معركةٌ مقدسة»، واصفًا هذه العمليات بأنها مسؤولة، وتهدف لحماية الشعب السوري.

لقد تغيّرت وجهة نظره كما تغيّر ردُّ فعل لافروف، وزير الخارجية الروسي، الذي عارض التدخل الأمريكي بحدَّة مُحذّرًا من «عواقب بالغة الخطورة حال تدخل أمريكا عسكريًا في سوريا».

اقرأ: لماذا دعمت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بوتين في حربه في سوريا؟

البطريرك.. أداةٌ للعلاقات الخارجية
كانت تصريحات البطريرك كيريل غريبة، إذ قال إنَّ فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية أمرٌ إيجابي، واصفًا تصريحاته بأنها «تمنحُ الأمل»، وتساءل البعض كيف يكون ذلك؟

إن تصريحاتهما؛ ترامب والبطريرك، تتوافق كثيرًا وأحيانًا تتطابق. يدعو ترامب لحماية «الأقلية المسيحية» في الشرق الأوسط، وهذا عينُ ما دعا ويدعو إليه البطريرك للقيام به في سوريا والشرق الأوسط، ويؤكد كلاهما على خطر «الإرهاب الإسلامي» وضرورة محاربته بضراوة.

كذلك، هنَّأ البطريرك الرئيس الصيني شي جين بينغ بمناسبة وصوله لمنصبه، وذلك في زيارة خاصة هي أول زيارة للصين يقوم بها البطريرك، وعلَّق الرئيس «أن هذا برهان واضح على خصوصية العلاقات الصينية – الروسية»، وردّ البطريرك بتعليق مُشابه يؤكد على قوّة العلاقات بين البلدين.

الداخل الروسي: قتلى الحرب و«الإرهاب»
في أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2013، اجتمع بوتين بوفود من الكنائس الأرثذوكسية حول العالم، وحذّر في لقائه معهم «من التعدي على حقوق الأقليات الدينية ومنها المسيحية الأرثوذكسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، أي في الدول المُسلمة.

بوتين متوسطًا اثنين من البطاركة
صُدم الكثيرون بمقتل الطيارين الروسيين اللذين أُسقطت طائراتهما بالقرب من مدينة تدمّر السورية. توجّه الرئيس الروسي فلاديمير بعد إعلان مقتلهما بيوم إلى دير «فالام»، وهو أحد أقدم الأديرة في شمال روسيا، وحضر الصلوات التي أقيمت على أرواح العسكريين برفقة البطريرك كيريل، الذي وصفته وكالات عربية بـ«المقرَّب لبوتين»، وعقد معه لقاءً سريًّا، ثم طلب من الرهبان «عدم نسيان أولئك الذين ضحوا بحياتهم في سوريا، والصلاة لكي يذكرهم الله».

هنالك علاقة بين أجهزة الدولة والكنيسة الأرثوذكسية الروسيّة، يعلوها الكثير من الأسئلة والاستفهامات، حول قوَّة الكنيسة وتوسّعها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وحول هيمنة بوتين على هذه الكنيسة واستفادته منها، حيثُ لا يفتأ البطريرك يؤيد الاتجاهات والقرارات السياسية التي يُصدّرها بوتين ويدعو إلى تنفيذها.

بوتين والإسلام
هل الأرثذوكسية وحدها التي هُيمن عليها في روسيا؟ يُمكننا أن نقول لا، فبوتين يستخدم الإسلام كذلك في تنظيم أوراق بيته الداخلي وشرْعنة أفعاله الخارجية.

فعلى الصعيد الداخلي، برز مُفتي روسيا الشيخ طلعت تاج الدين مُهاجمًا ما أسماه «الحركات الجهادية» حول العالم ومُشككًا في نواياها، بالطبع بما فيها الفصائل المُقاومة في سوريا، ويقول إنه يسعى لنشر الإسلام «التقليدي» حسب وصفه ويرفض التطرف.

ويدعو الشيخ تاج الدين إلى حجب الدين تمامًا عن السياسة، ويُفتي بعدم جواز تدخل رجال الدين في السياسة، ومن الجدير بالذكر أنَّ بوتين قام بمنحه وسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الرابعة، وذلك لـ«نجاحاته ونشاطه الاجتماعي وعمله الصادق»، وكذلك حصلَ على وسامٍ مشابه من وزارة الداخلية الروسية على تعاونه معها.

قبل أكثر من مئتي عام أنشأت الإمبراطورة يكتيرينا الثانية «الإدارة المركزية لمسلمي روسيا»، في محاولة من الدولة للهيمنة على المسلمين، وفي زمننا الحاضر، تُشرف الدولة على معظم المؤسسات الدينية في روسيا بما فيها الإدارة المركزية، وترسم توجهاتها وخططها.

بوتين مُصافحًا طلعت تاج الدين، مفتي روسيا السابق. الصورة من RIA
يقول المفكر الإسلامي الروسي المستقل، شاميل سلطانوف، أنَّ الإدارات الدينية الروسية الحالية لا تحمل هموم مسلمي روسيا، وإنما هموم الإدارة السياسية وخطط الكرملين، ويرى أنها «تتمتع بامتيازات مادية ومكانة معنوية تناضل للاحتفاظ بها، ولهذا فهي تتسابق فيما بينها لتنفيذ سياسات الكرملين، مشيرًا إلى أن وضعها الحالي مريح جدًا للسلطات».

اقرأ أيضًا: ماذا نعرف عن المسلمين في روسيا؟

أمَّا بالنسبة «للمعركة المقدسة» للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في سوريا، فهي كذلك للمسجد الروسي وأئمته، فقد قامَ مفتي روسيا -ضمن وفد من مسلمي روسيا- بزيارة سوريا في نهاية عام 2016 وبداية 2017، وناقش الوفد المسلم الروسي مع فريق من وزارة الأوقاف السورية «تعزيز العلاقات المتبادلة والجهود في مجال مواجهة التيارات الدينية المُتطرفة»، كذلك قام مفتي موسكو مع مفتي تتارستان بزيارة عددٍ من المدن المُحررة من «الإرهابيين»، من وجهة نظر النظام السوري.

يُقال عادًة إن «الدين أفيون الشعوب»، فهل هوَ كذلك بالنسبة للشعب الروسي؟