مقالات

صراع الأقوياء: تركيا أم إيران.. من الذي انتصر في كركوك؟

أحمد الدباغ

العراق هو عقدة التوتر في المنطقة منذ القدم، فدائمًا ما كان محط تنافس عنيف بين القوتين المسيطرتين على المنطقة، تركيا وإيران، لم تكن علاقة هذين البلدين على أحسن ما يرام منذ مئات السنين وتحديدًا منذ الصراع بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية في القرن الـ16. لم يختلف الوضع في الوقت الحاضر كثيرًا عما كان عليه من قبل، سوى أن ما كان يجري بحرب علنية بين القوتين فيما مضى، أضحى الآن يجري بين أجهزة الاستخبارات والأذرع العسكرية لكل من البلدين لتحقيق مآربهما في العراق والمنطقة.

السيطرة على كركوك.. آخر فصول المنافسة بين تركيا وإيران

في نظر المحللين، فإن ما حدث في كركوك، يعد مصلحة مشتركة كانت تصب في صالح كل من بغداد وطهران وأنقرة، فانفصال إقليم كردستان كان يؤرق هذه القوى مجتمعة، ولكل من هذه القوى الثلاث حسابات قد لا تتفق بالضرورة مع حسابات ومصالح الطرفين الآخرين.

اشتركت هذه الأطراف الثلاثة في وأد الانفصال وتحقق لهم ذلك جليًا في زحف القوات العراقية والحشد الشعبي فجر الاثنين 16 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، لتسيطر القوات العراقية على كركوك دون اشتباك يذكر بمساعدة واتفاق مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والذي مقره مدينة السليمانية، والذي يتمتع بعلاقات واسعة مع طهران.

اقرأ أيضًا: القصة الكاملة.. 5 أسئلة تشرح لك كيف خسر الأكراد كركوك بدون قتال

ميزان الربح والخسارة

يقول الكاتب التركي برهان الدين رضوان إن اضطرار قوات البيشمركة للانسحاب من كركوك، أظهر قدرة القوى الإقليمية المتمثلة بتركيا وإيران على وضع إرادة مشتركة في أمر معين وامتلاكها التأثير اللازم في هذا الشأن، لكن بعد هذه المرحلة والمتمثلة بسيطرة القوات العراقية على كركوك، فإن قوة إيران على الأرض ستثير القلق من خلال قوات الحشد الشعبي التي تديرها إيران بطريقة أو بأخرى.

ويضيف رضوان أنه من الواضح جدًا أن أكبر الأضرار التي نتجت عن استفتاء الانفصال في الإقليم هي ما لحقت بالعلاقات الاستراتيجية بين تركيا ومسعود البرزاني الذي يسيطر على محافظتين من أصل ثلاث محافظات في الإقليم وهما أربيل ودهوك، ورغم ما حصل، إلا أن تمزق وحدة الأراضي العراقية كان سيفتح الباب أمام كارثة كبيرة بالنسبة للمنطقة، وقد تمت عرقلة هذا عبر توافق تركي إيراني عراقي مشترك.

رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.

وعن علاقة إيران وتركيا واستمرارية تعاملهما المباشر في القضاء على حزب العمال الكردستاني التركي «PKK» في العراق، يرى الكاتب برهان الدين رضوان أن هناك أجندة مطروحة على الطاولة في هذا الشأن، وهناك سؤال يراود الباحثين في الشأن التركي وهو هل ستتخلى إيران التي قويت قبضتها عن تركيا في العراق؟ يرى برهان أن إيران بحاجة إلى تركيا أكثر من حاجة الأخيرة للأولى، ويرجع ذلك إلى حملة الضغوط التي تتعرض لها إيران من قبل الدول الخليجية وإسرائيل والولايات المتحدة مجتمعة، ومن غير المنطقي أن تتخلى إيران عن تركيا التي تشترك معها في ملفات مهمة.

المأزق التركي

من جانب آخر، نشر موقع «الخليج الجديد» تقريرًا جاء فيه أنه وفقًا لحسابات الربح والخسارة، فإن تركيا تتصدر قائمة الخاسرين جيواستراتيجيًا، وإن تمكنت مؤقتًا من وقف الطموح الكردي بإنشاء دولة قومية، ووفقًا للتقرير فإن تركيا خسرت «مسعود بارزاني» الذي كان لفترة طويلة حليفًا مقربًا لها، فبالإضافة إلى انسحاب البيشمركة السريع من محافظة كركوك، انسحبت قوات البيشمركة أيضًا من مناطق متنازع عليها خارج محافظة كركوك من بينها أقضية مخمور وسنجار وناحيتي ربيعة وبعشيقة وكلها في محافظة نينوى، ومن نتائج كل هذا التراجع الكردي دخول الحشد الشعبي المقرب من إيران إلى سنجار المحاذية للحدود السورية والتمركز فيها لفتح طريق آمن من إيران إلى سوريا وصولًا إلى لبنان والبحر المتوسط.

ويضيف التقرير أن هذه الخطوة وخاصة انسحاب البيشمركة من ناحية بعشيقة التابعة لمحافظة نينوى تقود إلى تعاظم الضغط السياسي والعسكري على تركيا لإخراج قواتها من معسكر بعشيقة «معسكر زليكان» مما سيفقد الأتراك حجتهم لإبقاء قواتهم في بعشيقة.

يقول الصحفي العراقي أحمد سعيد الذي يقيم في تركيا لـ«ساسة بوست»: إن ما جرى في كركوك رغم أنه أعطى ارتياحًا تركيًا من انتهاء حلم الدولة الكردية في شمال العراق، لكنه في الوقت ذاته وضع نصف الإقليم تحت اليد الإيرانية بشكل أكبر مما كان عليه الحال خلال الفترة الأخيرة، خاصةً بعد أن نجحت طهران باللعب على وتر الخلافات الداخلية لحزب الاتحاد ورغبة عائلة الطالباني بالمحافظة على نفوذها داخل الحزب أمام النائب الأول للأمين العام كوسرت رسول، وبالتالي فمهما كان خطاب أنقرة الإعلامي متشنجًا تجاه الإقليم، لكنها تعلم تمامًا أن ضعف البارزاني سيكون خسارة لحليف قوي لها.

وعن النفوذ التركي التقليدي في كردستان العراق، يضيف سعيد أن أنقرة تعلم جيدًا أن الفراغ الذي ستتركه في أربيل ودهوك سيغطى من طهران، ومهما توافقت تركيا وإيران بملف خطر الجماعات الكردية المسلحة كحزب العمال الكردستاني التركي وحزب الحياة الإيراني، فكلا الجانبين تركيا وإيران يدركان أنهما يختلفان في ملفات أخرى في سوريا والعراق، وتراجع نبرة الخطاب التركي الأخير يعود لواقع جديد مثّله الظهور الإيراني كمحرك لما جرى في كركوك وبقية المناطق، ونتيجة لذلك فإن أردوغان صرح مؤخرًا أنه سوف يراجع الأمر مع مستشاريه فيما يخص انتشار الحشد في قضاء سنجار مما يوحي بإعادة قراءة أنقرة للمشهد العراقي من جديد.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وعن احتمالية تصعيد أنقرة موقفها من الإقليم وإغلاق المعبر البري، أضاف أحمد سعيد أنه مع الصمت الأمريكي تجاه الأزمة لا يرى أن تركيا ستقدم على هذه الخطوة التي قد تعني هيمنة إيران على الإقليم بالمطلق.

يعتقد كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية أن الدولة الإسلامية «داعش» وإيران ستكونان أكبر المستفيدين في حالة استمرار المواجهة بين بغداد وأربيل، وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي إن أكبر الفائزين من التوترات الأخرى هما داعش والحرس الثوري الإسلامي الإيراني، حيث إن إيران استخدمت الميليشيات المدعومة من جانبها جنبًا إلى جنب القوات التي أرسلتها بغداد إلى كركوك، ويتوقع بعض الخبراء أن الدعم الإيراني لبغداد في الحرب على كركوك سيعود لمصلحة طهران.

يتوقع معهد دراسات الحرب، وهو مركز فكر يتخذ من واشنطن مقرًا له، يتوقع مزيدًا من النفوذ الإيراني داخل الحكومة العراقية ما سيحقق دعمًا شعبيًا أكبر للمرشحين المدعومين من إيران للانتخابات العراقية المقرر إجراؤها فى أبريل (نيسان) من العام القادم، الأمر الذي سيحتم على واشنطن مواجهة هذا التمدد الإيراني في مناطق جديدة في العراق.

وعن الربح والخسارة من الأزمة التي اندلعت في كركوك، يقول الكاتب التركي «كمال أوزرلوك» في مقال له في صحيفة يني شفق التركية إن البارزاني أعطى لإيران فرصة على طبق من فضة لا يمكن تصورها، فمنذ البداية، أرادت إيران السيطرة على كركوك وأربيل وكذلك السليمانية وحققت ذلك الآن، ويضيف أوزرلوك أن إيران أرادت منذ وقت مبكر أن يعادي البارزاني وتركيا بعضهما البعض لإنهاء النفوذ التركي في الإقليم، وهذا ما يبدو أنه حدث بالفعل.

وفي السياق ذاته، وصفت افتتاحية صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية في تقرير لها، ما حصل في مدينة كركوك العراقية، بأنه نصر لحلفاء طهران على نظرائهم المدعومين من واشنطن، في إشارة إلى سيطرة القوات العراقية معززة بقوات الحشد الشعبي المدعومة إيرانيًا على كركوك القابعة على ثروة نفطية هائلة، وأضافت الصحيفة أن المرتكزات الأساسية التي قامت عليها السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتمدت على إعادة بناء علاقات قوية مع حلفاء أمريكا التقليديين، إلا أن ما حصل في شمال العراق وتحديدًا في كركوك مَثَّل أول اختبار حقيقي لهذه الاستراتيجية.

الرئيس الإيراني حسن روحاني.

من جانب آخر، يرى الكاتب والمحلل السياسي العراقي «فواز الفواز» المقيم في واشنطن أن إيران تعتقد أن بتحركها هذا الدعم للقوات العراقية بسيطرتها على كركوك، تعتقد أنها أضافت ورقة ضغط ضد الأمريكيين فيما يخص برنامجها النووي والبالستي فضلًا عن إدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة الإرهاب، وأضاف أن من يعرف أمريكا وتحركها تجاه قضايا المنطقة، يعلم أن أفعال إيران هذه ستسرع من وقوف الولايات المتحدة بوجه المد الإيراني، على حد قوله.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وما بين الربح والخسارة التي تمخضت عن سيطرة القوات العراقية على كركوك، يظل الخاسر الوحيد في نظر العديد من العراقيين هو العراق، الذي ما يلبث أن يخرج من أزمة حتى يدخل في أخرى قد تكون أشد منها، وليظل العراق وشعبه في نظر الكثيرين ضحية الصراعات الإقليمية والدولية إلى أجل غير مسمى.