العنف السياسي العربي كمشكلة حضارية
كانت الحربان العالميتان بمثابة نقطة فارقة بالنسبة إلى الكائن البشري ليتحول من آلة للقتل بمساعدة التكنولوجيا الحديثة وليرجع إلى طبيعته الإنسانية. فبدأ البحث عن الأطر المؤسساتية والقانونية التي ترتقي بسلوكه الإنساني بوضع القيود على العلاقات والتفاعلات ما بين الدول، فنشأت المنظمات والهيئات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها. وهو التطور المؤسسي الذي انعكس إيجابياً على فكرة الحقوق والمصالح، وتوازى معها حدوث طفرة في حقلي دراسات القانون الدولي والسياسة الخارجية للدول وحقل حقوق الإنسان وغيره من حقول معرفية بهدف تقييد هذه النوازع العدوانية التي قد تتحول بسهولة وسط هذا التقدم التكنولوجي إلى حروب ودمار للمجتمعات.
ومن ثم كانت الوقفة مهمة عقب الحرب العالمية الثانية التي انتهت باكتشاف وبتجريب أسلحة الدمار الشامل، فتمّ التركيز على الجوانب الإيجابية بتسخير العلم والمعرفة في خدمة البشرية، فكانت البداية بأوروبا التي خرّبتها هذه الحرب ودفعت ضريبة كبيرة بمقتل عشرات الملايين من أبنائها، بتنميتها اقتصادياً بمشروع مارشال ولتتحول القارة العجوز من دول تتحارب في ما بينها إلى دول متعاونة ملغية الحدود في شكل الاتحاد الأوروبي حالياً والذي لم يوجد فجأة، وإنما نشأ كنواة في الخمسينات من القرن الماضي، واستمر في النمو والتطور فكرياً ومؤسسياً على مدار عقود بانضمام الدول إليه وفق قواعد وأسس وشروط يجب أن تنفذها الدولة الراغبة في الانضمام إليه.
وكانت النتيجة هي الصورة التي عليها المجتمع الأوروبي الآن. فحروب تدمير المدن من ستالينغراد إلى برلين ومن درسدن الألمانية إلى لندن، ومن بيرل هاربر إلى هيروشيما وناغازاكي، قد أفضت إلى هذا التطور والنمو الذي أعقب هذه الحرب الكونية. ولم يكن التحول اقتصادياً فقط وإنما كان حضارياً، بمعنى أن الإنسان الأوروبي على مدار العقود الماضية نشأ ليحيا بإنسانيته بعيداً عن نوازع العنف والحروب، حتى لو ظهرت عند البعض كما في موجة الشعبوية الآن. فالإطار المؤسسي والسلوكي داخل المجتمع كفيل بامتصاصها. وهذه المراجعة في الثقافة الغربية للعنف والقتل لم يكن لتتم لولا وجود العقلية الليبرالية والعلمانية الحاكمة البعيدة من الأيديولوجيات القومية والدينية المتعصبة التي تمت ترجمتها كثقافة وسلوك وكعمل مؤسسات تحكم تفاعل المجتمع ما أسهم في تحييد هذه العوائق التي أخذت قروناً حتى يتم الانتصار عليها.
وبنظرة سريعة في البحث عن العنف والقتل والتدمير على خريطة العالم اليوم وعلى مدار العقود الماضية، نجدها لا تخرج عن جغرافية كل ما هو عربي وشرق أوسطي، فما هو السبب؟ هل يرتبط الأمر بطبيعة التفاعلات بين الدول الكبرى والأطماع في الثورات العربية، كما هو متداول في تفسيرات كثيرة؟ أم أن السبب يكمن في السياق المجتمعي سياسياً واجتماعياً بوجود الاستبداد وغياب التنمية؟
كل ما سبق من تساؤلات يبحث عن أسباب تفرّدنا في هذه الحالة التي تفرّخ كل هذا العنف والإرهاب ليفسر هذه البصمة الواحدة له المنتشرة من «بوكو حرام» في أقصى الغرب من نيجيريا إلى «داعش» في العراق وسورية و «طالبان» في أفغانستان في أقصى الشرق، ولا حتى ما بين الآمنين في الأحياء الفقيرة في باكستان إلى الأحياء الغنية في باريس وبروكسيل، درة مدن الحضارة الحديثة، فضلاً عن المدن التي تدمر ويقتل أهلها من حلب السورية إلى الموصل العراقية وغيرهما. فلماذا نحن كمسلمين، بحيث أن المسيحي العربي لا يشاركنا هذه المأساة بل هو نفسه أصبح هدفاً للاستئصال؟ نعم قد يوجد شيء خطأ في ما يحركنا ويحولنا بهذه السرعة إلى إرهابيين. وقد يكون مَن ينطبق عليهم هذا التوصيف جزءاً صغيراً منا، ولكن هذه الشريحة الصغيرة هي المسؤولة عن الذي نراه الآن سواء في هذه الحلقة المفرقة ما بين الاستبدادين الديني والسياسي اللذين يغذي كل منهما الآخر. فأصبحنا نتعاطى كل شيء في حياتنا باسم الدين، بداية من السياسة والاقتصاد ومروراً بطريقة تفكيرنا وسلوكياتنا: كيف نلبس، وكيف نتحدث، وكيف ننظر وندرك ما حولنا… الخ؟ وأصبحت هذه الكوارث تأتي تحت عباءة الدين، سواء كان الذي يرتديها سلفياً أو داعشياً أو جهادياً. المهم أن يكون عنصرياً كارهاً لمن يختلف معه في المعتقد، الأمر الذي يؤدي به إلى حالة من الشوفينية التي توصله إلى أن يصبح القتل عنده تقرباً إلى الخالق. فالإشكالية تكمن هنا في العقول وفي الطريقة التي ترى بها الحقائق على الأرض، وكيف تفسر بها الواقع الذي ينتج هذا الصراع الديني والأيديولوجي الذي نتنفسه جميعاً بدرجات مختلفة.