مقالات

في الحدث : رواندا تلقن إفريقيا دروسا في التنمية

 
طارق أشقر
 
ربما لا يكن الأمر مدهشا للرئيس الرواندي بول كاجامي بأن يرى بلاده تتسارع في مستوى النمو والأداء الاقتصادي بشكل لا يتسق مع واقع دول الجوار الأخرى بالقارة الإفريقية من دول إفريقية عربية أو غير عربية، وذلك كونه هو الذي “خطط مسبقا” لبلوغ بلاده إلى ما هي عليه الآن.
غير أن الأمر أصبح مذهلا لكافة الأكاديميين والمراقبين الاقتصاديين والاجتماعيين في القارة السمراء ولربما في العالم أجمع، كونهم اعتادوا على تلقي الجرعات الإحباطية المركزة حول كل ما هو في محيط القارة الإفريقية بشأن ما يتعلق بالأداء الاقتصادي أو السلم الاجتماعي أو الاستقرار السياسي في القارة السمراء.
وبوصوله ببلاده إلى “الأقرب من مصاف الدول المتقدمة” في أقل من خمسة وعشرين عاما بعام أي منذ توليه سدة الرئاسة في بلاده عام 1995، يكون بول كاجامي قد تمكن من جعل رواندا نموذجا عمليا لتلقين القارة الإفريقية دروسا في كيفية النهوض بالشعوب “المتعددة الأعراق” تلك السمة الغالبة في القارة السمراء؛ أي التعدد والتنوع الثقافي والاجتماعي والعرقي معا.
فبعد صراعات وحروب دامية استمرت عامين كاملين بين قبيلتي “التوتسي” و”الهوتو” ـ المكونين الرئيسيين للتركيبة الديموجرافية لرواندا ـ بين عام 1993-1995 راح ضحيتها المليون قتيل، تمكن الرجل من مداواة الجراح المجتمعية لشعبه من خلال التركيز الممنهج على ترسيخ عرى الانسجام والتوافق الاجتماعي بين أفراد شعب الدولة الواحدة بقرار سياسي منع بموجبه التصنيف على أساس مسمى التوتسي أو الهوتو، فأصبح الاقتصاد والتعليم والتنشئة الوطنية ودعم الوحدة الوطنية والتخطيط المستقبلي ضمن أبرز وسائل ردم الهوة المجتمعية لشعب عانى ويلات الحروب طوال عامين.
وما أن مرت خمسة وعشرون عاما والتي تعتبر قصيرة في عمر الشعوب وبحسابات التنمية الاقتصادية أيضا، حتى أصبحت رواندا نموذجا يشار إليه بالبنان من حيث معدلات النمو الاقتصادي الذي اعتبرته بعض المؤسسات الاقتصادية العالمية الأعلى على مستوى إفريقيا، فتراجع بالنتيجة مستوى الفقر في رواندا إلى أقل من 40% كما تراجعت نسبة الأمية إلى 25%، وارتفع دخل الفرد إلى ثلاثين ضعف ما كان عليه إبان فترة الحرب الأهلية، وتلك قفزات يعتبر تحقيقها نادرا في القارة السمراء التي ما زالت تتمسك بتصنيفات ومفاهيم كالفقر وضعف الأداء الاقتصادي وتراجع الشفافية وزيادة معدلات الفساد ونقص الخدمات وتراجع التعليم…إلى آخره من المصطلحات التي أصبحت ملازمة لاقتصادات دول القارة على وجه العموم وباستثناء القليل النادر ورواندا في مقدمة ذلك الاستثناء.
لقد استحقت رواندا مكانة أن تكون معلما في تلقين دروس التنمية، ليس فقط لقدرتها على تخطي تداعيات حروبها الأهلية، والانتقال بالبلاد في فترة وجيزة من دولة غير مستقرة سياسية يعاني شعبها الفقر والأمية وعدم تقبل الآخر، إلى دولة نامية وجاذبة للاستثمار الداخلي والأجنبي والسياح وجاذبة على تحقيق الانسجام وقبول الآخر وغيرها من عوامل التميز، بل لتفردها حتى في استخدام “تكنولوجيا الفضاء” التي ما ذكرت في أوساط المخططين والساسة الأفارقة إلا وتنادت إلى أذهانهم أفكار جهنمية على شاكلة التطوير العسكري والاستخباراتي والأمني، غير أن رواندا استخدمت تلك التكنولوجيا لتعزيز التعليم في الريف والحضر عبر الأقمار الصناعية، لتكون بذلك قد ضمنت تعليما مواكبا للتطور ملتحقا بالركب العالمي في التنمية والارتقاء بالشعوب.
بهذه الانطلاقة التنموية التي حققتها رواندا في فترة وجيزة، تكون حقا قد تمكنت من الاستفادة من تسخير التنوع لمصلحة بناء رواندا الموحدة، مرتكزة في ذلك على كل ما هو إيجابي من مفاهيم العمل السياسي والاقتصادي وفق ترسيخ مبادئ القيادة السياسية الرشيدة والتجرد والعدالة والمساواة والكرامة والشفافية، والتطلع نحو الأفضل، والإيمان بحق الجميع في الحياة في وطن واحد يسع للجميع، ملقنة بذلك القارة السمراء دروسا في التنمية والسلم الاجتماعي.
طارق أشقر

admin