مقالات

في العمق: أحداث الخليج .. والبحث عن منصات الحكمة وصوت العقل

 
 
د. رجب بن علي العويسي
 
أحداث متسارعة في أوقات زمنية متقاربة بدأت تعيشها منطقة الخليج العربي. فبعد حادثة ناقلات النفط في ميناء الفجيرة، وحادثة ناقلتي النفط في المياه الدولية ببحر عمان؛ إلى إسقاط القوات الجوية الإيرانية لطائرة استطلاع أميركية مسيرة؛ بدأت الأجواء في الخليج ساخنة إلى حد الانفجار، متعكرة إلى حد التلوث، مشوهة إلى حد التقزز، تعيش في حالة من الضبابية وعدم وضوح الصورة في من يقف وراء الحدثين الأوليين، والأيدي التي بدأت تلعب بالنار وتصطاد في الماء العكر، والتصريحات الأميركية حول إسقاط الطائرة والتي لاقت استهجانا مريرا من المطبلين للحرب والداعين إليها، فيصفون الموقف الأميركي بالتخاذل في مواجهة إيران، لتفصح عن خواء فكري وعقلية متعطشة للدماء، وفكري سلطوي يقرأ الحياة في ظلال الدمار والحروب والقتل والتشريد، وعقم في الفكر السياسي الأيديولوجي، وضعف في مفاهيم الإدارة السياسية الواعية للأحداث، في أطروحات ولقاءات وتصريحات من المحللين السياسيين وغيرهم من رواد منصات التواصل الاجتماعي، في سلوك فكري يعيش انتكاسة الكلمات، وحالة الترهل، وسلب الحكمة، وغلبة الأنا وتمكن الأيديولوجيات الفكرية والمذهبية من افتعال أدوات القتل؛ قتل بوادر التهدئة وفرص الحوار والأمن والاستقرار من قاموس السياسة الغوغائية والإعلام السلبي المسيس.
لسنا مع المحاولات الاستفزازية لجر الولايات المتحدة الأميركية وإيران على الحرب، وطرحنا هنا تأكيدا على أن منطقتنا العربية عامة والخليجية خاصة لا تحتمل التصعيد، فما يحدث فيها من مآسٍ وانتكاسات كافية لمعاناة الأوطان والإنسان وضياع التنمية وذهاب ريحها؛ وليس من حل لعقدها إلا بالتأكيد على أن يواصل حكماء هذه المنطقة الحساسة من العالم وقادتها والمخلصون من أبناء الإنسانية الواعية جهودهم في الحد من اشعال فتيل المواجهة، وأن تمارس الدبلوماسية الإقليمية العالمية والأمم المتحدة دورا محوريا في إثناء الدولتين عن وقوع الحرب أو أي ضربات يمكن أن تشنها الولايات المتحدة على المصالح الإيرانية أو العكس، فهو الصوت الذي نحتاجه اليوم في ظل الانتكاسة التي تمر بها المنطقة، وحالة التردي والفوضى والخنوع الذي باتت يسيطر على الوضع الإقليمي والعربي والخليجي عامة، وما يمكن أن تضيفه أي حرب من تراكمات سيكون أثرها السلبي ليس سهلا كما يظن البعض، وتأثيرها سيمتد لسنوات طويلة، بل قد تؤدي إلى تغيير الخريطة السياسية والاقتصادية للمنطقة في أكثر الأحوال وإنهاك لمساحات الأمل والقوة التي ما زالت تملكها بلدان المنطقة، والولاءات التي تعتمد عليها في التعامل مع مواطنيها وقضاياها الداخلية؛ لذلك لن نكون مسرورين لأي مواجهة، لأنها باختصار ستصنع واقعا مأساويا جديدا يشل الحركة الاقتصادية والنشاط الذي تمارسه المنطقة كمصدر للنفط وأكبر المستهلكين لغيره في العالم، لذلك سيلحق الضرر الفادح بكل البنى الأساسية التطويرية والإنجازات التي حققتها المنطقة على مر العقود الخمسة الماضية، فليس علينا أن نظهر أي فرح أو سرور بقدومها، ولا أن يخالجنا الشك في أن هذه الحرب لن تقتصر على خصمين وحيدين فقط، فالمسألة أكبر من ذلك وتفاصيلها أدق بكثير مما يعرفه العامة أو يتظاهر به الساسة، ويبقى صوت الحكمة من أبناء هذا الوطن الخليجي والعربي والإسلامي هو السبيل لحلحلة الأزمة وإدارة الخلاف وضبط أي تشويهات بدأت تظهر الأمر على غير حقيقته، أو تحاول أن تستفيد من هذه التذبذبات والتشنجات في صياغة أحداث جديدة، تضع المنطقة على فوهة بركان، حيث ما زالت حرب الخليج الأولى والثانية ماثلتين أمامنا بحجم ما خلفتها من دمار وضياع للأوطان واستنزاف لموارد المنطقة واستهلاك لنصيب إنسانها، وإنهاك لقوتها البشرية والمالية.
لذلك نقول لأولئك المطبلين لأي حرب في الخليج، ارجعوا بذاكرتكم إلى الخلف ماذا تركت الحروب في الأمة؟ وماذا أحدثت فيها من شروخ وآلام؟ وهل الأمة بحاجة اليوم إلى مزيد من التقطيع عما يحصل في واقعها من أحداث ومآسٍ وانتكاسات وانتحار، حتى ضاعت هيبة الأوطان، وأهدرت كرامة الإنسان، وضيعت موازين الحق والعدل والمساواة، وأصبح الإنسان العربي مشردا؟ هل يرضيكم حال الأمة اليوم؟ هل يسعدكم ما تشاهدونه في ليبيا وسوريا والعراق واليمن وغيرها؟ أين ذهبت قضية العرب الأولى “فلسطين” حتى أصبحنا نتجه بها إلى السقوط في ظلال ما يسمى بصفقة القرن؟ هل تعلمون ماذا تعني الحرب؟ أم نسيتم ما يحصل بسببها من انتهاك للأرض والإنسان وتدمير للوطن وإزهاق لكل شيء جميل؟ لا يجرنكم الغرور ـ ودق الصدر من حلفائكم ـ على حرب إن قامت لن تترك أخضر ولا يابسا؛ بل مزيد من دفع استحقاقات فاتورة وجود بوارج الموت وسفن الغرق، ليبقى الخليج مسألة تصفية حسابات، ومكانا لإثارة النزاعات، وتدخل القوى البراجماتية المعادية لنهضة الأمة والإنسان العربي، وفرصة للمزيد من هدر الأموال وتغييب المنطقة من خريطة المناطق الأكثر اقتصادا أو إنتاجا للنفط أو الأكثر من حيث دخل الفرد في بعض دولها، لتعيش في وحل الانتكاسة وظلال القرار وانطفاء كل بارقة أمل تعيد المنطقة إلى رشدها أو أن تستفيد من مواردها، ليضيع إنسانها تحت خط الفقر، وبلدانها في خراب الدور واندثارها، فإن مآسي الحروب وما خلفته في واقعنا العربي خير دليل يضعنا أمام حذر تام من الوقوع في مصايد الفخ وسيئ السلوك واندفاع السياسة وعدم اتزانها.
ما أجمل صوت الحكمة في لأم الجراح، وسد الثغرات، وإيقاظ التيه الذي تعيشه الأمة؛ تيه الضمير وضياع المسؤوليات، ما أجمل أن يكون رد أبناء هذه الأمة في منصات التواصل الاجتماعي حكمة في القول، وقولا في صدق، وصدقا في ثبات، ومنهجا في عمل، ويقينا في إرادة، وسموا في فكر، ونبلا في شعور، واحتراما لحوار، واتساعا في تشخيص، وعمقا في تحليل، ورؤية في استشراف الأمن؛ عندها ستكون النتيجة بحثا عن الأمل المفقود في مصداقية الكلمة الداعية للسلام والأمن والتعايش والاحترام، وليس شحنا للرئيس ترامب، وتقليلا من سلوكه في التعامل مع حادثة إسقاط الطائرة، بل بمساعدته على التخلي عن سياساته المتجهة إلى الحرب والحصار والقتل وإثارة النزاعات وترويج الإشكاليات العرقية وحالة الاستفزازات التي يبني عليها سياساته، وحالة عدم الثبات أو المصداقية التي تعيشها السياسة الأميركية، مما أخل بتقدير العالم لها أو نظرته إليها، فأصبحت سياسة العداء ظاهرة حتى مع جيرانه وحلفائه الغربيين، وما الحرب التجارية والاقتصادية التي يشنها مع الصين وغيرها إلا أنموذج لهذه السياسة الأحادية التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية في عهد ترامب.
كم كنت أرجو من كل عربي أن يقف وقفة رجل واحد ويعلن بصوت واحد أن اخرجوا من أرض الخليج، واتركونا نحل مشاكلنا ونصفح عن بعضنا، ونقرر بأنفسنا كيف نتعامل مع من يشتركون معنا في خير الروابط والعروة الوثقى، وهي رابطة الدين والإيمان والقرآن، كم كنت أرجو من المغردين عبر منصات التواصل الاجتماعي أن تجتمع كلمتهم على حقن الدماء وتصفية النفوس وإعادة المياه إلى مجاريها ومقت الفتنة وترك كل الممارسات التي باتت تشوه مجتمعاتنا وتفرق بين أبناء الوطن الواحد وتزيد من حالة الاختناقات الفكرية والأيديولوجيات المعرفية بين أبناء البيت الواحد، لنتفق على مبدأ واحد وهو أن لا يكون للحرب أي ضرورة، ولا نرجو أن يكون لها أي وجود في منطقتنا، ولنتفق بأن حل قضايا الأمة يجب أن تكون من أبناء الأمة، وأن حالة الاندفاع وشهوة الحرب وهيجان السياسة وما تعيشه من خنوع وضعف في قيمها ومبادئها وما يقدمه الإعلام من ممارسات تعبر عن حالة السقوط الأخلاقي التي يعيشها، لن تقدم للأمة إلا الهزيمة والانكسار والانتحار البطيء عن رغبة وإرادة.
إن أبناء الأمة هم من يقع عليهم مسؤولية إعادة هذا المسار من جديد؛ إعادة إنتاج واقع الأمة في ظل مبادئ العدل والإنصاف، والحكمة والسلام، القائمة على احترام الآخر وتقديره، وترسيخ مبادئ الحوار والتعايش، وتعميق مسارات الأمن والأمان، والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام حسن الجوار، والسيادة الوطنية للدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، وأن تؤسس الأمة في سياستها الخارجية مبدأ العمل معا في مواجهة أي أفكار تسعى لتقويض بنيانها أو إشاعة الخلاف بين أبنائها، أو إثارة العاطفة المذهبية والفكرية لتشوه صورة الأمة الموحدة في مبادئها وأهدافها وغاياتها، لذلك كان عليهم جميعا في كل مواقع العمل والمسؤولية أن يأخذوا بيد القائمين على سياستها وإدارة شؤونها وولاة أمورها وقادتها في منعهم من أي تهور يصل بالأمة إلى الضياع ويسيء إلى موقعها الذي أراده الله لها في كتابه العزيز ووصفها به؛ إن هي رجعت للحق وآمنت بالمنهج واعتلت الحكمة وسمت فوق كل صيحات الخلاف، وسعت إلى تقريب وجهات النظر ليكون الاختلاف مرحلة بناء وإعادة مسار الطريق والتفكير المعمق في الوصول إلى الأهداف العليا السامية، هذا الأمر يحتاج من أبناء الأمة إلى حكمة ووعي واعتراف بحجم المسؤولية التي تقع على عاتق كل واحد منهم، وإذ كان ثمة منصة يمكن أن تحقق هذه الغاية وتبرز موقف سلوك أبناء المجتمعات العربية والخليجية والإسلامية، فإنها منصات التواصل الاجتماعي التي تحتضن اليوم العالم كله في صفحاتها ويرتمي في أحضانها مروجو الفتنة ومشوهو السمعة ومضلو الفكر وناكرو المعروف وشاحنو الفرقة، كما يراود حضوره فيها أصحاب الكلمة وذوو البصيرة والعقلاء؛ وما تثيره اليوم من مساحة واسعة لإبداء الرأي وتقديم البدائل أو تضييق الخناق وتعتيم الصورة وطمس الحق وإزهاق الحقيقة، لتشكل الحكمة المنشودة منطلقا لإعادة السلوك المعتبر في التعامل مع هذه المنصات، وأن يكون التعبير عن رفض هذه الحرب ورفض سلوك الابتزاز والاستفزاز والتشويه الذي تعيشه المنطقة نابعا من قناعة الجميع بالحاجة إلى صوت الحكمة ونهج العقل وتكثيف المنصات السياسية والتواصلية التي تسعى لمنع الحرب وجمع الناس على مائدة التفاوض، في حوار متكافئ وشراكات عادلة وعلاقات رشيدة تؤكدها الشرعية الدولية ومبادئ مجلس الأمن.
وعليه، فإن ما يثيره البعض عبر هذه المنصات التفاعلية من دعوات إلى التصعيد؛ إنما هي دعوة مشحونة بالكره، مليئة بالتخبط، مفتقدة للحكمة، بعيدة عن الصواب، تائهة في الأرض، مستهلكة مسيسة لإرضاء أعداء الأمة وأعداء المنطقة الذين لا يريدون لها الأمن والأمان، بل يرجون لها أن تعيش في حالة قلق مستمر، لا تنعم بمواردها، ولا تستفيد من مقدراتها، فأي سبيل للحكمة هذا الذي يمجّد حربا بغيضة ويدعو إلى حرب المسلم وقتله، إننا مع كل ذلك نجد في الآراء والدعوات الأخرى القائمة على إنهاض صوت العقل وإغلاق فوهة المدفع، وبناء فرص للحل، وإعادة تقييم الوضع، وتجنيب المنطقة أي فرصة لإيقادها أو إشعال فتيلها، لنرسل رسالة عتاب لكل من وجد في قلبه فكرة الحرب الطريق لحل المشكلات، لنؤكد له أن أحداث التاريخ جميها أثبتت أن الحرب هي استمرارية للنزاع، وتقييد لكل مسارات التحول وإعادة الثقة، لن تنهي الحروب حياة الأمم والمجتمعات صاحبة الحق، بل ستظل تدافع عن حقوقها، وأن العالم أثبت بما لا يدع مجالا للشك ما للحوار والسلام والحكمة من أثر إيجابي يستمر أثره ممتدا إلى أجل غير محدود، عطاءَ غير مجذوذ، حياة جديدة للعالمين جميعهم، ونهضة سامية للكرامة الإنسانية، وصدق الله تبارك وتعالى القائل “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ “(32/ المائدة)