بقلم : العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن لبنان يوماً في وضع يعتبر نفسه آمناً دون تهديد أو بعيداً عن خطر، لكن وضعه اليوم ورغم كلّ ما تحقق من إنجازات هامة خلال العام الفائت على الصعيدين الأمني والسياسي، قد يكون لبنان في وضع دقيق لجهة تعدّد الأخطار. والأخطر فيها ما اتخذ من الداخل مصدراً له، ثم يفاقم الأمر سوءاً أنّ لبنان يلج هذا الموضع في ظلّ بيئة دولية وإقليمية بالغة التعقيد والصعوبة ومستجلبة أخطاراً كبرى أقلها التقسيم والشرذمة.
فلبنان اليوم يواجه الخطر الذي تشكله «إسرائيل» على أرضه وأمنه وثروته، ورغم ما امتلكت المقاومة من قدرات مكّنتها من إرساء معادلة الردع في وجه العدوالصهيوني هذا، ورغم ما يمارسه الجيش اللبناني من دور وطني في مواجهة هذا العدو، كان أحدثها الإنذار الذي وجهه الى «إسرائيل» عبر الأمم المتحدة بوجوب التوقف والامتناع عن التعرض أو العدوان أو قضم الأرض اللبنانية في سياق ما تريد «إسرائيل» القيام به من بناء جدار تدّعي أن له مهمة دفاعية وهو عمل خطر نراه في الحقيقة قناعاً يخفي نية «إسرائيل» الالتفاف على ما جرى في العام 2000 حين إخراجها من الجنوب وسعي «إسرائيل» بمساعدة من الأمم المتحدة وتواطؤ مع فريقها المختص بالخرائط برئاسة الأميركي بينتر، لاقتطاع مساحة 18 مليون م2 من الأرض اللبنانية في 13 منطقة حدودية من الناقورة حتى المطلة. ولكن لبنان أفشل مناورتها الاحتيالية آنذاك، وتأتي اليوم وبعد 18 سنة بمحاولة العودة الى مشروع القضم السابق بذريعة بناء جدار دفاعي. الأمر الذي يضع لبنان أمام تحدٍّ كبير للحفاظ على أرضه، ويشتدّ التحدّي قسوة إذا تذكّرنا بأنّ أحداً من الأطراف الدولية في الخارج لن يساعد لبنان في مواجهة «إسرائيل» لثنيها عن عدوانها ووحده لبنان بقواه المسلحة الرسمية والشعبية المقاومة هو المعني بالدفاع ومنع القضم.
وإضافة الى ما تقدّم، وبكل وقاحة يخرج وزير الحرب «الإسرائيلي» بتهديد للبنان لمنعه من استثمار ثروته الغازية في البحر، مدّعياً بأنّ البلوك 9 الذي يعزم لبنان على تلزيمه للتنقيب فيه هو حق لـ«إسرائيل». وهنا تبدو الغرابة الفظيعة ففي حين يطالب لبنان بتصحيح خط الفصل بين المنطقة الاقتصادية اللبنانية والأخرى التابعة لفلسطين المحتلة تصحيحاً يُعيد للبنان 850 كلم2 اقتطعت من المنطقة اللبنانية نتيجة خطأ في الترسيم، في هذه الوقت يقفز ليبرمان فوق الخطأ والحق اللبناني بهذه المساحة، ويجاهر بنية «إسرائيل» منع لبنان من استثمار ثروته في منطقة لم تكن أصلا موضوع نزاع، في موقف يستدعي وقفة لبنانية صلبة تُفهم «إسرائيل» أن لبنان يملك من القوة ما يجعله قادراً على حماية حقوقه بشكل يقيني.
وإلى ما تقدّم أيضاً يُضاف التهديد الثالث والذي تقوم «إسرائيل» بمقتضاه باستهداف لبنانيين ومقيمين على أرض لبنانية، كما واستهداف البنى التحتية وشبكات الاتصالات بالتجسس وسواها من أعمال تخريبيه إرهابية تقود الى زعزعة الأمن والاستقرار في لبنان وتؤثر على قطاعات رئيسية في اقتصاده لا يمكن لها أن تنمو من غير أمن مناسب يلائم نموها، ما يخلق مرة أخرى تحدياً يواجه لبنان لحماية أمنه واستقراره وسلامة مَن هم فيه من مواطنين ومقيمين في ظل بيئة دولية لا يعوّل عليها مطلقاً في ردع «إسرائيل» عن أعمالها العدوانية والاستجابة الى المطالبة اللبنانية في دعم الأمن والاستقرار الداخلي.
أما الخطر الرابع والذي رغم تقلّص مفاعيله اليوم بعد الإنجاز الميداني الكبير الذي حققه الجيش اللبناني والمقاومة على الحدود الشرقية مع سورية، والتمكّن من اجتثاث القواعد الإرهابية من الأرض اللبنانية، فإنه يبقى خطراً جاثماً بما يمثله الإرهاب المستتر، لأنه رغم ما تحقق فإننا لا يمكن ان نسترخي ونقول انتهى الإرهاب من لبنان. فالواقعية الميدانية تفرض قولاً آخر مفاده أن للإرهاب خلايا نائمة وقدرات لا شك بفعاليتها وإمكانات معتبرة تتيح له إذا آنس فرصة او غفلة لبنانية أن يضرب ضربته ويحدث الفظائع ما يخلق التحدي الآخر الذي لا يواجه الا بمزيد من العمل للدفاع عن الأمن اللبناني.
لكن الذي يزيد الأخطار خطراً أدهى وأمرّ، هو ما ارتسم في الداخل من عناصر تؤثر على الوضع وتمسّ مباشرة بالوحدة الوطنية. وهنا نلفت الجميع للعبر التي في تاريخنا القريب وللعبر القائمة في محيطنا والتي تقود جميعها الى القول وحدها الوحدة الوطنية تشكل درع الوطن وحصنه المنيع وأهم وأفعل خطوط الدفاع عن لبنان.
بيد أن الوحدة الوطنية لا تُبنى ولا تحفظ بشتيمة من هنا وتهديد من هناك. فالثقة والطمأنينة المتبادلة شرط أولي للوحدة الوطنية، كما أن هذه الأخيرة لا تكون بتجاوز صلاحيات من هنا ولا بكيد من هناك. فهضم الحقوق والاعتداء على الصلاحيات أقرب طريق لتفجير الوحدة الوطنية مهما كانت حصينة. أما الإقصاء والتهميش او الإلغاء أو إنكار وجود الآخر ومنعه من ممارسة صلاحياته وعدم الاعتراف له بحقوق، فهي جميعها سمّ زعاف يُطيح بالوحدة الوطنية، مهما كانت عليه من شدة وقوة.
إنّ الأخطار والتهديدات التي تشكلها «إسرائيل» ويضيف اليها الإرهاب أخرى ويفاقمها الوضع الدولي والإقليمي المتفجّر والمفتوح على كلّ الاحتمالات بما فيها القاتمة، كلّ ذلك يدفعنا جميعاً الى التعقل والممارسة الوطنية والتمسك بحقوق الآخر ووجوده قبل المطالبة بحقوقنا أما العنتريات والشتائم والتحدي وهضم الحقوق والاستفزاز في غرف مقفلة قابلة للتسريب او في شوارع قابلة للاختراق، فإنّ كلّ ذلك لا يحفظ قوة ولا يحمي وطناً، وطبعاً لا يحفظ حقوقاً ولا يبني دولة، بل إنه فضلاً عن التعطيل فإنه يطيح بما تحقق من إنجازات علينا أن نحفظها ونفاخر بها.