فاتنة الدجاني
كانت «جمعة عظيمة» بكل المعاني. فيها اجتمعت رموزٌ يتقاطع فيها العقائدي الديني والسياسي والتاريخي. تماماً مثل صورة فلسطين.
في القلب منها «مسيرة العودة الكبرى» في ذكرى «يوم الأرض». تطورٌ نوعيٌ في «المقاومة الشعبية». لا أدل على ذلك أكثر من رد فعل جيش الاحتلال الإسرائيلي؛ تأهب كأنها الحرب، ونشر قناصة، وإشراف رئيس الأركان وجنرالاته شخصياً على الوضع عند الحدود.
في الجمعة العظيمة في غزة، حضرت الوحدة الوطنية والعلَم الواحد، عَلَم فلسطين، وغابت رايات الفصائل. في مشهديتها، أعاد الفلسطيني تذكير العالم بمأساته. نصَب خياماً على طول الحدود تعيد الى الأذهان صور النكبة الأولى. وفيها قال للعالم بأعلى صوته: نحن هنا. ولدنا ونحيا ونموت. وإذا كانت ممانعة الرئيس محمود عباس أسقطت «صفقة القرن» الى حين، فإن «مسيرة العودة الكبرى» وجهت اليها ضربة موجعة.
كل هذا لا يعفي من وقفة تأملٍ تمس مصطلح «المقاومة الشعبية» ومدلولاته، وهو ما أُطلق على المسيرات بمحاذاة حدود غزة. هذه الوقفة يزيدها إلحاحاً كمٌّ كبير من المقالات والتحليلات والتصريحات اعتبر حصيلة الجمعة انتصاراً حصرياً لفصيل واحد، هو «حماس»، في مقابل فصيلٍ آخر هو «فتح»، أو الأدق السلطة الوطنية. فكأنما الحرب بينهما وليس مع الاحتلال. وما خطاب الرئيس الفلسطيني لمناسبة «يوم الأرض» وإعلان الحداد العام على الشهداء، سوى شكل من كسر الاحتكار.
التجربة الفلسطينية الطويلة ترى في «المقاومة الشعبية» عقداً اجتماعياً وطنياً، وحالة ارتقاء بالوعي الجمعيّ وتسليمه بحتمية مقاومة الاستيطان والاحتلال، واستعداده للتضحيات. هي مقاومة عابرة لكل الفصائل والتنظيمات باعتبارها روافد. وهي في نقائها روحُ الشعب، والحالة المعنوية لوجوده.
انتفاضة 1987 أرقى مثال لتلك الروح الجمعية الطامحة الى التحرر، قبل أن تُحرَف خلال المفاوضات تحت شعار «الحراك تكتيك، والحصاد استراتيجية، ولا أحد يحارب من دون هدف». وبمنطق غير واقعي (يجهل طبيعة الاحتلال)، تمت الموافقة على مؤتمر مدريد بتمثيلٍ فلسطيني قاصرٍ لم يدُم طويلاً لأن اتفاق أوسلو أبطله.
«تصنيع» المقاومة الشعبية بأمر تنظيميّ يتضمن خطر تفريغها من محتواها الجامع، ويصادرها لمصلحة فريق من دون آخر، وهذا بعض ما يهدد وصف مسيرات العودة في غزة. هو مثل «انتفاضة الأقصى» عام 2000 التي كانت هيمنة القرارات القيادية واضحة فيها، ولم تُحقق اختراقاً في الأفق السياسي، على رغم ميلها الواضح نحو العسكرة من دون حساب لموازين القوى، ولا الإعداد الجيد لذلك أصلاً.
هذا لا يعني أن الانتفاضة «المصنّعة» لا تحقق شيئاً، بل ربما تحقق الحد الأدنى في العادة، مقارنة بمقاومة شعبية عفوية متحررة من وصاية سلطة، أي سلطة، وملتزمة قيادة جماعية واعية. ومن التجربة التاريخية الفلسطينية الطويلة، فإن تجيير المقاومة الشعبية لمصلحة فريق هو تعميق للانفصال وللخلاف وتشظٍ للقوى الوطنية ومحاولة للاستقواء.
واستقواء طرف على حساب آخر، في ظل ظروف «صفقة القرن»، محلياً وإقليمياً ودولياً، ليس أكثر من تحسين أوراق الاستقواء فحسب، وكأنه إعادة خلط الأوراق تمهيداً لاعتمادات جديدة. ونرجو أن لا تكون «المقاومة الشعبية» محلَ توظيف لإعادة إطلاق مرحلة جديدة من الحلول، وعلى رأسها «صفقة القرن» ببرقع جديدٍ محسّن.
قيمة المقاومة الشعبية في أن تبقى نقية الجوهر. وإذا كانت إعادة تقويم خطابها ضرورية، فلمزيد من تعزيز المشروع الوطني. والشرط هنا أن لا تكون على المقاومة سلطة، لا لهذا الفصيل ولا ذاك، بل للوطن.