مقالات

ما العمل فلسطينياً ؟

محمد بدر الدين زايد
ناقشتُ في مقال سابق كيف أن تطورات النظام الدولي وتحولاته؛ تزيد من بطء تسوية الأزمات والصراعات الإقليمية الراهنة، وأنه على رغم الطبيعة المغايرة للقضية الفلسطينية مقارنة بحالات سورية واليمن وليبيا، إلا أنها بدورها تشهد انعكاسات تلك التحولات المعقّدة، فضلاً عن تداعيات الانشغال العربي بتلك الأزمات، فضلاً عن التهديدات والتحديات التي تواجه غالبية النظم العربية داخلياً وخارجياً. ولن أطرح هنا ما سبق لي طرحه من ضرورة الاستفادة من نموذج جنوب أفريقيا في المقاومة ضد النظام العنصري والبحث عن صيغة فلسطينية في هذا الصدد، وإنما ينصب حديثي اليوم على المستوى التكتيكي وما هو قصير ومتوسط الأجل لإيقاف الاستنزاف المستمر لهذه القضية وتقليل الخسائر وربما محاولة الخروج من المساحة الضيقة الراهنة للعمل الفلسطيني. وبداية؛ أظن أنه من الضروري توقف الحالة الانفعالية الراهنة للمزاج الفلسطيني، فالمؤكد أنها لا تخدم التفكير الرشيد والهادئ الضروري لاتباع استراتيجيات أو حتى ردود فعل مناسبة.
 
وتصور أن هذه الحالة ستسهم في رفع معنويات الشعب الفلسطيني قد يكون صحيحاً للوهلة الأولى، لكنه ليس كذلك، بما أن الانفعال قد يضاعف الإحباط والتشاؤم بعد زوال أثره بسويعات قليلة. كما أنه لا يناسب السياسات الرشيدة، فما بالنا إذا كانت التحديات صعبة والعدو شرس ويمتلك قدرة غير عادية على توظيف الأدوات الدعائية لمصلحته بالباطل، كما أنه مدعوم بصلابة من قوة دولية ما زالت تمارس موقع الصدارة على رغم إخفاقاتها وقرب مغادرتها هذا الموقع، وعموماً، فإن غالبية أطراف النظام الدولي تفضل عدم الصدام مع هذه القوة؛ أي الولايات المتحدة. ثم أنه كما أشرنا سابقاً لم تكن قط محايدة أو نزيهة – ومع ذلك فإنه ليس لها بديل كوسيط حتى الآن– وليس من المؤكد بعد إمكانية توفير بديل في المستقبل القريب، يكون قادراً على الضغط على إسرائيل وإجبارها على التجاوب مع حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة. فلنغضب إذن من دون انفعال، بما في ذلك التعبير عن رفضنا وتحفظاتنا كي يمكن التفكير والتصرف في ما يمكن عمله. أول البديهيات أننا نحتاج دوماً لإبقاء القضية حاضرة ومحل اهتمام، وهو ما يمكن تحقيقه من عنصرين يجب التنبه لهما، أولهما البعد الإنساني لمعاناة الشعب الفلسطيني، وثانيهما البعد الإسلامي- المسيحي لهذه القضية وأنها ليست قضية المسلمين وحدهم، ولدينا سلاح ضخم لم يتم تفعيله في شكل كاف حتى الآن وهو سلاح وسائل التواصل الاجتماعي؛ سلاح لا يحتاج الأجهــزة الرسمية وحدها، بقدر ما يحتاج إلى تحرك جدي من جانب كل الشعـــب الفلسطيني، وبخاصة من الجاليات الفلسطينية والعــربية عبر دول العالم المختلفة، وليس من العيب الاعتراف بمسؤولية الشتات الفلسطيني في مختلف دول العالم لقيادة حملات نشطة ودؤوبة لإيقاظ الضمير العالمي وتنبيه البشرية إلى استمرار هذه المعاناة. والأمثلة عبر التـاريخ لا حصر لها، يكفي تذكر نماذج كدنشواي في مصر أو جميلة بوحيرد في الجزائر، وهل نسينا الحراك الذي سبّبه الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، ولدينا اليوم نموذج عهد التميمي والحكم بسجنها أخيراً كحالة يمكن متابعة استثمارها وإبقاء جذوتها مشتعلة في شكل دائم.
 
وهنا يجب الوعي بأن العنف الفلسطيني الناعم كحالة عهد التميمي؛ أي المحسوب وغير المنفلت يحدث آثاراً تتجاوز عشرات المواجهات المسلحة التي يتم استثمارها ضد القضية العادلة بل وليس لمصلحتها. وحالات المواجهات المسلحة المحدودة لا يبدو أنها تفيد القضية الفلسطينية، بل تصب دوماً لخدمة الاحتلال الإسرائيلي. ودليل ذلك حوادث مقتل الشباب الفلسطيني شبه الدائمة عقــب اشتباكات مع جنود أو مستوطنين إسرائيليين وكيفية توظيف إسرائيل لها لمصلحتها وليس لمصلحة الشعب الفلسطيني، وذلك على عكس المقاومة السلمية التي تملك قدرة أكبر على إحراج الجانبين الإسرائيلي والأميركي.
 
وأظن أنه قد آن الأوان لأن يشعر الشتات الفلسطيني بضرورة لعب دور أكبر في الدفاع عن قضيته، والتوقف عن لوم الآخرين لعدم تقديم الدعم الكافي، وكذا عن ترك أهلهم في الأراضي المحتلة يواجهون التحديات وجبروت الاحتلال وحدهم. وكأن هؤلاء الصامدين في الأراضي المحتلة والعالم العربي مسؤولون وحدهم عن رفع هذا الظلم وهذه المعاناة بما يعني المزيد من الظلم لهذا الشعب وللسلطة الفلسطينية وقيادات الداخل. نعم تحويلات هذا الشتات المالية هي أكبر من مهمة في تمكين الصمود ولكنهم أيضاً يملكون حرية أكبر في وسائل التواصل الاجتماعي التي يمكن توظيفها لخدمة القضية.
 
ومن ناحية أخرى تحتاج السلطة والقيادات الفلسطينية لأكبر قدر من الهدوء لضبط النفس لمواجهة هذه الظروف الصعبة. ويدخل في ذلك ضرورة التعامل مع موضوع المصالحة بدرجة أكبر من الإخلاص والجدية. وإذا كان على السلطة الفلسطينية بذل المزيد من الجهد، فإن على «حماس» أن تدرك مسؤوليتها عن جزء كبير من ورطة الشعب الفلسطيني الراهنة، ومن الإساءة للقضية وخلط أوراقها منذ لحظة الانقلاب على السلطة وتعقيد المشهد، وأن الخلاص من هذه التركة في أسرع وقت ممكن هو أمر لمصلحتها ولمصلحة الشعب الفلسطيني كله. لتطوى هذه الصفحة، وتتقدم القضية ومصلحة الشعب الفلسطيني على أولوية المصالح الشخصية والأيديولوجية الوهمية للإسلام السياسي التي لم تفد القضية بقدر ما أسهمت مع التقاليد البعثية في خلق مناخ المزايدات والأوهام، وسبّبت مشاعر مرتبكة لدى قطاعات من الشعب العربي والعالم تجاه هذه القضية العادلة. وهنا فإن البعد الإسلامي في قضية القدس لا شك في أهميته ولا بد من الحفاظ عليه حفاظاً على فلسطين ذاتها من الضياع والذوبان الكامل. ولكن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية قومية ضد أيديولوجية عنصرية تستبعد الآخر بمكوناته الإسلامية والمسيحية. والإصرار على طرح القضية بهذا المنظور أمر ضروري لإعطاء أفق أرحب للقضية وللمكون الحضاري الإنساني لها ولاستنفار الضمير العالمي والقوى الإسلامية والمسيحية معاً لرفض العنصرية الصهيونية باسم الدين، ولاستمرار تحويل شعب بأكمله إلى مواطنين من الدرجة الثانية. مثل هذه المواجهة الحضارية الضخمة تحتاج إلى فكر استراتيجي وهدوء أعصاب لا يتفق والانفعال بأي حال من الأحوال. والمهم أنه خلال هذه المواجهة الطويلة هناك الكثير الذي يمكن عمله لإبقاء القضية حاضرة، وكذا لتحسين شروط أي تسوية مستقبلية وتقليل الخسائر.