تقرر فاطمة الحاجي الاصطدام مبكرًا مع القارئ باختيار عنوان تظهر فيه الرمزية واضحة من وراء اختياره، تقول لنا فيها أنت ستدخل إلى مشاهد وعوالم لا شيء فيها إلا اللون الأحمر، لون الدماء، والتي اعتمدت الكاتبة ونجحت فيها عن طريق الحاسة التي نشتمها بواسطة الوصف الدقيق لموسى بطل الرواية الذي يدخل لعالم تنظيم الدولة الإسلامية متخفيًا بعد أن اختاروه طباخًا لأمير الجماعة، وبذلك يكون شاهدًا على الدم والقتل للتنظيم مع مقارنته بأحداث ماضية عاشها موسى مع نظام سقط وتهاوى ليجد نفسه عاريًا من كل شيء سوى مهارته في الطبخ التي أنقذته من أن يكون انتحاريًّا أو سابيًا أو غازيًا، مع تضمين الحنين في كثير من المقاطع؛ فنجدها تبني البعد النفسي للشخصية ببراعة وتعود بنا إلى «موسى» الذي يحن للحاجة «مريومة» والدته التي كانت تطبخ في أفراح الحي، وهي تتغنى «يا أمي قريب يجي، بوعين سوده وفرمله قهوي، يأمي قريب يجي».
نقرأ في الرواية تضمين الحدث الداعشي في المتن الحكائي، بما يجعل النص السردي مشوّقًا ومثيرًا، من البداية إلى النهاية، وتتشكل بنية النص من جمع عاطفة الحب وصراح الحياة وحب البقاء والانتماء الداعشي الانتحاري المليء بمفردات الموت والقتل والحرب والسبي والأسر، واختزال الوقائع الطويلة في أيام تتقلص مساحتها لتتمدد داخل الأمكنة التي تتنقل بها في السرد ببيئة موسى بين أسرته وزوجته الثانية، وسفره لتونس وبين مواقع التنظيم، وذلك وفق الأحداث والوقائع الخارجية أيضًا.
كما أن مغامرة الكاتبة في مستوى الخيال دافعة به إلى الواقع ليخترق مجالس التنظيم وخفاياه بالرغم من أنها لم تعد خافية على أحد، خصوصًا في ليبيا؛ فتفاصيله أصبحت وأسراره معروفة لدى الجميع فهذه مغامرة الكاتبة، خاصةً وأن هذه المرة الثالثة التي نقرأ فيها نصًّا سرديًّا يتناول داعش بعد نص هاجر عبد الصمد «حبيبي داعشي» و«أيام داعش» لمصطفى محمود عواض.
«كل شيء مفكك حولي وقاتم في غيابها. وقفت أتابع بحذر حلزونًا زاحفًا يتبعني ويتعقب خطوي، أغير مساري في كل خطوة ليتوه عني، أصفر لحنًا قديمًا لاستعادة الماضي، أصارع وأدفع خطاي بصعوبة تاركًا رسم قدمي الموجوع على الرمال». (لوحة الدماء، ص144)
وفي المقابل كانت فاطمة الحاجي أكثر جرأةً في استعراض الوجه الآخر لقادة التنظيم ولزعمائه في المشهد الأخير ليستمر عنصر المفاجأة وإثارة الفضول لدى القارئ حتى في مشهدها الأخير، «قابلني صندوق كبير ملقى أثار فضولي (…) اقتربت منه ألمسه فتناهى إلى سمعي صوت أنين ينبعث من داخله»، وهنا يجد البطل نفسه أمام «حور» وهو مشوه الوجه، إذ تستطيع الكاتبة التنقل بنا في المكان الروائي بوعي تام وبدون الخروج عن البناء السردي المتماسك في الحكاية، وهذا هو الذي جعلها منفكة تمامًا عن تقديم الشخصية الرئيسية في الرواية، خاصةً بعد التنقل بين السجن ومقر التنظيم بكل دهاليزه.
تضيف الدكتورة فاطمة تجربةً جديدةً في الكتابات النسوية، خاصةً أن بطل الراوية هنا رجل، وهو الراوي الذي كتبت الدكتورة على لسانه، وقدمت لنا تجاربه وهواجسه ومشاعره وعلاقته بالدم والحب والخوف، وهي قراءة جديدة لهذا الفكر والدخول في عوالمه المتشابكة، ليزداد عدد الكتابات التي تناولت هذا الفكر، ولكن بأسلوب آخر، وفكرة جديدة؛ بل وعوالم أخرى لم ننتبه إليها من قبل رغم معايشتنا لواقعه في كثير من البلدان العربية.
وأطلقت الدكتورة فاطمة الحاجي صرختين متتاليتين في روايتين، كانت الأولى صراخ الطابق السفلي وصرخاتها مكلومة ومكبلة، وها هي تطلق صرختها الثانية عبر لوحات حمراء تلوح بأفق دموي برواية قريبًا سترى النور «لوحة الدماء».