مقالات

ماكرون يتودد للأسد ويمهد للحديث إليه وممثليه.. والثاني يشن هجوما كاسحا ضد فرنسا.. ما هو تفسير هذه المفارقة؟

 
بينما كان الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون يَعترف بأن الرئيس بشار الأسد كَسِبَ الحَرب في سورية، وأن المُجتمع الدوليّ “سيَضطر” للحَديث معه، بَعد هزيمة “الدولة الإسلاميّة” في شهر شباط (فبراير) المُقبل، شَنّ الرئيس السوريّ هُجومًا شَرِسًا على فرنسا التي قال أنّها “دعمت الإرهاب والمُعارضة السوريّة بشقّيها السياسيّ والمُسلّح، ومن يَدعم الإرهاب لا يَحق له الحَديث عن السّلام”.
الرئيس الفرنسي يَرفع “الرّايات البَيضاء” مُسلّمًا بانتصارِ المِحور الروسيّ السوريّ الإيرانيّ، وهَزيمة المَشروع الغَربيّ الأمريكيّ في سورية، ويُمهّد لفَتح قَنواتِ الحِوار مع الرئيس الأسد والحُكومةِ في دِمشق، والبَحث عن حِصّة لفرنسا وشُركائِها في “كَعكة” إعادة الإعمار المُتوقّع أن تَنطلق في الأَشهر المُقبلة.
في المُقابل يَرتفع مَنسوب الثّقة لدى الرئيس الأسد، وهذا ما يُفسّر هُجومه الشّرس على فرنسا، وطَلبِه للوَفد المُفاوض بِرئاسة الدكتور بشار الجعفري بالانسحاب من الجَولةِ الثّامنة من مُفاوضات جنيف التي انتهت بالفَشل، لأن الوَفد الرسميّ السوريّ رَفض الدّخول في أيِّ مُفاوضاتٍ مُباشرةٍ مع وَفد المُعارضة، ما لم يَسقُط البَند الذي يُطالب بتَنحّي الأسد في بَيانِه الذي أصْدَرهُ قبل مُغادرة الرّياض.
الرئيس الأسد، ومِثلما جاء في تَصريحاتٍ أدلى بِها أثناء استقباله وَفدًا اقتصاديًّا روسيًّا، لا يَعتبر أن وَفد المُعارضة في جنيف ليس له أيَّ تَمثيلٍ في أوساطِ الشّعب السوريّ فقط، بل ولا يُعبّرون عن أنفسِهم في بَعض الحالات، وهُناك اعتقادٌ سائد بأنّ قِطاعاتٍ عَريضة من الشّعب، داخل سورية وخارِجها، يُشاركونه الرأي نَفسه، ويُوجّهون انتقاداتٍ للمُعارضة السوريّة ربّما أكثر وأقوى من انتقاداتِه.
فرنسا والدّول الغَربيّة بِرئاسة الولايات المتحدة دَعمت العُنف والإرهاب في سورية، وعندما وَصلت التّفجيرات إلى قَلب عواصِمها، بَدأت تُغيّر سِياساتِها، وباتَت مُحاربة الإرهاب بالنّسبةِ إليها أولويّة.
شهر شباط (فبراير) المُقبل ربّما سَيكون واحد من أهم الشّهور في تاريخِ الأزمةِ السوريّة، فالرئيس ماكرون تَوقّع أن يَشهد هَزيمةً نهائيّةً وحاسِمةً لـ”الدولة الإسلاميّة”، وفَتح قنوات الاتصال بعدها مع الحُكومة السوريّة، والرئيس الأسد خُصوصًا، وربّما لم يَكُن من قبيل الصّدفة أن تُحدّد القِيادة الروسيّة هذا الشهر (شباط) لعَقد مُؤتمر الحِوار السوريّ في مُنتجع سوتشي الذي من المُتوقّع أن تكون دائِرة التّمثيل فيه أوسع، وبحُضورِ مُختلف ألوانِ الطّيف السياسيّ والاجتماعيّ، والقَبليّ، والإثني، والمَذهبي السوري، وسَيكون هذا المُؤتمر البَديل “المُستدام” لمَنظومة مُفاوضات جنيف.
زميلٌ مِصريٌّ مَتزوّجٌ من سورية، عادَ لتَوّه من جولةٍ شَمِلت دِمشق وحلب وحمص واللاذقيّة، التقى خِلال بَعض مَحطّاتها بأخوال أبنائه، قال لي حَرفيًّا بأنّه وَجد حالةً من الهُدوء والاستقرار في مُعظم هذهِ المُدن التي زارها، وأكّد أن الحياةَ كانت طبيعيّةً، وأعمال الإعمار الفرديّ بَدأت في أكثرِ من مكانٍ خاصّةً حلب، ومن قِبل أُسرٍ عادت فِعلاً، أو تُمهّد للعَودةِ من المَنفى.
الانطباعات نَفسها سَمِعناها من أصدقاء ومَعارف من سورية، مُعظمُهم ليس له أيَّ علاقةٍ بالسّياسة، زاروا البِلاد بشَكلٍ خاطِف، ويَتحدّثون عن عَودةٍ قَريبةٍ، وبَعض هؤلاء كان مُعارِضًا شَرِسًا للنّظام في بدايةِ الأزمة.
سورية ليست دولةً “طاردةً” للسكّان مثل بعض الدول العربيّة الأخرى مثل لبنان وإيرلندا، وهناك ارتباطٌ وثيقٌ بين أهلها وتُراب بِلادهم، ولذلك لا نَستغرب ان تَشهد في الأيّام المُقبلة هِجرةً مُعاكسة.
الرئيس الأسد كانَ مُتحمّسًا للحِوار السوريّ في مُنتجع سوتشي، الذي وَصفه بأنّه يَضم محاور واضحة لها علاقة بمَوضوع الدّستور، وما يأتي بَعدُه من انتخاباتٍ تشريعيّةٍ ورئاسيّةٍ حُرّةٍ وشَفّافة، وهذا يَعني بِدايةً جديدةً ومُختلفةً ترتكز على الديمقراطيّة والمُحاسبة والمُساواة والتّعايش وحُكم القانون، أو هكذا نَأمل.
الشّعب السوريّ العَزيز الكَريم، الذي عانى من القَتل والتّشريد والدّمار يَستحقْ الاستقرار والعَيش الآمن، والخُبز المَمزوج بالكَرامة والحُريّات، ويَبدو أنّه سَينال مُبتغاه في المُستقبل المَنظور.. والله أعلم.