27-03-2022 | 04:00
المصدر: النهار العربي جورج عيسى
الرئيس الأميركي جو بايدن
يقول أميركيّون مؤيّدون للاتفاق النووي مع إيران إنّ المشكلة الأساسية للرئيس السابق دونالد ترامب معه لا تكمن في بنوده بل في مجرّد حمله توقيع سلفه باراك أوباما. قد يكون في ذلك التحليل شيء من الصحّة. لكنّ إصرار الرئيس الحاليّ جو بايدن على العودة إلى الاتّفاق بالرغم من كلّ عيوبه، والأهمّ بالرغم من كلّ التصعيد الإيرانيّ، يجد تفسيره أيضاً إلى حدّ كبير في مجرّد الدفاع عن اتّفاق يحمل توقيع رئيسه السابق باراك أوباما.
على عكس ترامب الآتي من عالم الأعمال وتلفزيون الواقع، أمضى بايدن عشرات الأعوام في مجلس الشيوخ، وشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجيّة في المجلس لأكثر من عقد. اختار أوباما بايدن ليكون نائبه، بالتحديد لتمتّعه بالخبرة في السياسة الخارجيّة. لكن يبدو أنّ خبرته لم تنفعه دائماً في هذا الميدان، لا كمشرّع ولا كنائب للرئيس ولا حتى كرئيس للولايات المتحدة.
إخفاقات متنقّلة
في سنته الرئاسيّة الأولى، أخفق بايدن بشكل متفاوت في أربع قضايا رئيسيّة أو على الأقلّ في كيفيّة تنفيذها: الانسحاب من أفغانستان، واتفاق “أوكوس”، وعدم تمكّنه من ردع روسيا عن غزو أوكرانيا. قد يجادل البعض في أنّ بايدن تمكّن من توحيد الحلفاء واستنزاف الروس عبر مساعدة الأوكرانيين عسكريّاً، لكن في المقابل، لم يكن اقتراح إدارته إجلاء الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي موفّقاً. لو قبل الأخير الهرب بطائرة أميركيّة لكان الروس على الأرجح قد سيطروا على كييف. حتى توحيد حلف شمال الأطلسيّ لم يكن سببه المباشر بايدن بمقدار ما كان الاجتياح الروسيّ نفسه.
القضيّة الرابعة هي العودة إلى الاتّفاق النوويّ. يمكن كتابة الكثير عن عيوب الاتّفاق الأساسيّ التي ستستمرّ وتزداد مع الاتّفاق الجديد. لكن بعد استهداف الحوثيّين المتكرّر للسعوديّة والإمارات، بل للمصالح الأميركية نفسها، يصبح النقاش حول العيوب ثانوياً أمام العنوان الأهمّ: كيف يثق بايدن بالتفاوض مع طرف يستهدفه دوماً بشكل مباشر أو غير مباشر؟
في أوائل العقد الماضي، أمكن فهم منطلقات أوباما إلى حدّ ما في التفاوض مع إيران، إذا تمّ أخذها من زاوية مطّلع فقط على الخطوط العريضة لديناميّات الشرق الأوسط. كانت هذه المنطقة مصدر إلهاء لجهود الإدارة في تركيزها على الصين، بالتالي، توجّب التوصّل إلى حلّ مع الإيرانيّين لترسيخ الاستقرار في المنطقة وتحقيق إمكانيّة “الاستدارة” نحو الشرق. من ناحية ثانية، سيكون منطقيّاً، بحسب تصوّر الإدارة آنذاك، أن تقابَل بوادر حسن النيّة الأميركيّة ببوادر مشابهة من طهران فيتمكّن البلدان من طيّ صفحة خلافات دامت عقوداً. النقطة الثالثة المتعلّقة بموضوع الاتّفاق نفسه هي تأمين ضمانة أمميّة في منع إيران من أن تصبح دولة نوويّة مع تمتّع الاتّفاق بنظام تفتيش يتيح للعالم مهلة معقولة (12 شهراً) لاكتشاف سعي إيرانيّ محتمل نحو القنبلة النوويّة. تحقيق ذلك الهدف من دون استخدام القوّة العسكريّة سيكون مثاليّاً بالنسبة إلى واشنطن.
مكامن الخلل في المنطلقات
تمّ التوقيع على الاتفاق النوويّ في نهاية ولاية أوباما الثانية، بالتالي لم يكن بإمكان الأخير تصحيح الأخطاء في تصوّراته، على عكس بايدن. الخلل الأوّل هو عدم إمكانيّة التخلّي عن الشرق الأوسط لصالح التركيز على الصين. وقعت إدارة ترامب في هذا الخطأ أيضاً. اضطرّت في 2018 إلى نقل بعض أصولها البحريّة من الشرق الأوسط إلى المحيط الهنديّ قبل أن تضطرّ إلى سحبها مجدّداً وإعادتها إلى المنطقة عقب الهجوم الكبير على منشآت “أرامكو” في سبتمبر (أيلول) 2019.
الخطأ الثاني الذي ارتكبته إدارة أوباما هو توقّعها بأن تصبح إيران أكثر اعتدالاً بمجرّد الانفتاح عليها. الأمثلة التي تنقض ذلك أكبر من أن تحصى. لكنّ أكثرها لفتاً للأنظار هو احتجاز “الحرس الثوريّ” زورقين أميركيين وإهانة البحّارة الأميركيّين الذين كانوا على متنيهما في شهر كانون الثاني (يناير) 2016، الشهر نفسه الذي كان يفترض أن يدخل الاتّفاق النوويّ حيّز التنفيذ. أمكن أن يكون الاحتجاز إجراء روتينيّاً لدخول البحّارة من طريق الخطأ المياه الإقليميّة الإيرانيّة. لكنّ نشر فيديو يظهرهم راكعين وواضعين أيديهم على رؤوسهم لم يترك مجالاً للشكّ في طبيعة الرسالة.
الخطأ الثالث هو افتراض أنّ إيران بعيدة فعلاً نحو عام واحد من الخرق النوويّ. يقول مناصرو الاتّفاق إنّ انسحاب ترامب منه دفع الإيرانيّين إلى تقليص هذه الفترة الزمنيّة. لكن ما يتجاهله هؤلاء أنّ معظم الانتهاكات النوويّة، وأبرزها تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60 في المئة وإنتاج معدن اليورانيوم، حصلت في ولاية بايدن لا ترامب.
بايدن هو هو؟
على الرغم من أنّ بايدن تمتّع بفترة كافية ليستخلص بعض العِبر، لم تتغيّر مقاربته للسلوك الإيرانيّ. منذ شباط (فبراير) 2021، لم تتوقّف إدارته عن تقديم التنازلات لإيران، ولم تتوقّف الأخيرة عن استهداف المصالح الأميركيّة في العراق. خلال النصف الأوّل من ولاية بايدن، تعرّضت تلك المصالح لأكثر من 50 اعتداء. كانت حلقة التصعيد الأخيرة في هذه السلسلة قصف القنصليّة الأميركيّة في أربيل منذ قرابة أسبوعين. كما كان متوقّعاً، امتنعت الإدارة عن الردّ. وكما كان متوقّعاً أيضاً، واصلت إيران التصعيد، فاستهدف وكلاؤها الحوثيّون السبت الماضي وأمس الجمعة منشآت “أرامكو” النفطيّة إضافة إلى منشآت أخرى. واستهدفوا قبل ذلك المنشآت المدنيّة في الإمارات أيضاً.
ستّة أعوام كان يفترض أن تكون كافية كي يعلم بايدن أنّ التنازلات لصالح إيران تستجلب تصعيداً إيرانياً لا تنازلات مقابلة. ربّما يدرك بايدن هذه الحقيقة، لكن لا يناسبه الاعتراف بأنّ سلفه كان محقّاً في هذه النقطة. وهذا يستدعي السؤال عمّا إذا كانت المصلحة الشخصيّة هي على المحكّ في واشنطن لا المصلحة الأميركيّة. وهو يستدعي سؤالاً آخر عمّا يعنيه تمتّع بايدن بخبرة طويلة في السياسة الخارجيّة إذا لم يكن مستعدّاً لتكييف نظريّته مع الواقع بدلاً من تكييف الواقع مع نظريّته كما تبدو عليه الأمور حالياً.