مقالات

ما الذي يستنزف التنمية؟

 
عادل سعد
 
مهما كانت المسافة طويلة أو قصيرة بين التحدي الذي يستنزف التنمية وما يعضد تواصلها، يظل معيارها الأساسي في كيفية تحريرها من احتمالات الوقوع في المحظور الذي يجعلها رهينة التذبذب والتلكؤ والخروقات المتكررة، مما يضعف حركتها إن لم يُعِدها إلى نقطة الشروع، وإذا كان من المنطق أن نشير إلى أن إحدى دعائم التنمية وجود مرتكزات قوية لها، فإن من المنطق أيضا أن يتم الاستثمار في الأنشطة الاقتصادية ذات الإنتاجية العالية التي تغطي حاجة البلاد وتقربها من الاكتفاء الذاتي دون أن يتاح لأي تبرير أن يأخذ فرصته في تأثيث انكماشات ممكنة إلا وفق الحالة الطارئة التي تفرضها متغيرات خارج نطاق قدرة الدولة، أما بالنسبة للخروقات الأخرى فيمكن معالجتها إذا كان السبب تغيرا في حجم الكلفة المالية المرصودة حسب أسعار العملة، والمعالجة هنا تتم من خلال المداورة في بعض موجودات الموازنة حتى وإن أدى ذلك إلى عجز يكون تحت السيطرة.
إن ما يستنزف التنمية أيضا ضمن الأسباب المتصلة بإرادة الدولة، الافتقار إلى نظام ضريبي محصّن ضد كل أشكال الفساد؛ لأن من شأن نظام ضريبي بنزاهة عالية لا بد أن يحقق مداورة ذكية وفاعلة وشفافة للموازنة المالية العامة، بل إن من شأنه أن يحد من هوس الجشع وما يترتب عليه من تباين في الحقوق والواجبات المطلوبة من المواطنين إذا تم اعتماد نظام ضريبي يقوم على استيفاء العدل.
الحال أيضا، تتمثل حصانة التنمية في الاستثمار بالأخلاقيات الوطنية، وبمعنى مضاف أن يكون المواطن أمينا على حقوق الدولة بالقدر الذي يكون فيه أمينا على حقوقه الشخصية، فهنا ينتصر اعتبار المسؤولية التضامنية، والوضع في ذلك يظل بحاجة دائما إلى الشعور بمسؤولية التكليف؛ أي ما يسمى بالتنمية المستدامة للوعي، لذلك لا بد من المراجعة الدورية مع وجود منظومة ضريبية تقوم على استحصال حقوق الدولة وفي الوقت نفسه تحرص على حقوق المواطنين، إنها معادلة ضامنة حتما للتنمية الصحيحة.
ولي هنا أن أضيف أن واحدة من الأعباء الجسيمة التي أصيب بها الاقتصاد العراقي مثلا، يكمن في تسلل العيوب إلى نظامه الضريبي المعتمد باستحصال رسوم الخدمات وقيم (جمع قيمة) عقارات أو موجودات أخرى تتطلب فرض ضرائب عليها ومنها ضريبة الدخل، وفي هذا السياق تبقى المنظومة الضريبية إحدى الآليات الأساسية لتحقيق الشراكة العادلة في الواجبات والحقوق.
إن واحدة من وجوه الخلل في التنمية، أي تنمية، الاستنزاف الذي يصيبها من جراء الخضوع لاعتبارات التجريب المتكرر بذريعة البحث عن الإطار الأكثر قابلية للتطبيق، وهذا المرض الاقتصادي شائع، خصوصا إذا ارتبط بمتغيرات سياسية وادعاء القدرة على إحداث تغييرات جوهرية بخلاف ما يراه البعض الآخر لتلك السياسة، وليس بعيدا عن هذا الواقع أن اقتصادات دول عربية مصابة بهذا الداء.
أما الاستنزاف الأشد للتنمية فهو الذي يرتبط بتصعيد الإدمان الاستهلاكي والسياسات الإرضائية التي لا بد أن تأكل من حصة التنمية ذات الأمد البعيد؛ لأن مثل تلك الإرضاءات تراهن على المسكنات الاقتصادية الآنية، وبخلافه يرى خبراء بأنه كلما طال أمد التنمية توفرت فرص أكثر لها، مع مراعاة عدم الوقوع في فخ معضلة (رفاه الوقت) التي تعيش مع أغلب الاقتصادات العربية، وبالمقابل تكسب الدول ذات التنمية المستدامة فرصتها في التمكين عند مراعاة ضمانات ديمومتها، والأهم أن تكون هناك صناديق مالية يضع مسؤولوها بالاعتبار أن المال الاستثماري يمثل شريان الدولة، أية دولة.