مقالات

محمد بدر الدين زايد

 

النقاش الدائر في غالبية الأوساط الغربية، وبعض الأوساط العربية حول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يركز على مسألة السعي نحو الحكم مدى الحياة، والبعض الآخر يبدي مخاوفه من عودة سباق التسلح، في ضوء ما أعلنه بوتين في «خطاب الاتحاد» أخيراً في شأن القدرات الصاروخية غير المسبوقة، ويأتي ذلك وسط رؤية مشوشة تسود العالم حول كثير من القضايا والأزمات. على أن ما لا يريد الغرب طرحه أو مناقشته في شكل جاد هو لماذا سار بوتين فى هذا الاتجاه؟ فعندما سقط الاتحاد السوفياتي؛ سارعت الولايات المتحدة الأميركية ومعها الاتحاد الأوروبي في انتهاج سياسات استفزازية. ولم تكتف واشنطن بأنها أصبحت تتصدر المشهد العالمي، وإنما عملت على إذلال موسكو من أبعاد عدة، فأفترضت أولاً أنها تملك وحدها إدارة النظام الدولي ومنظمة الأمم المتحدة كما تريد، ومارست هذا لسنوات عدة. والأخطر من كل هذا هو التسارع المبالغ فيه في ضم دول حلف وارسو السابقة إلى الاتحاد الأوروبي، ثم تالياً ضم عدد منها إلى حلف الأطلنطي، ثم كانت حافة الهاوية عندما امتد الأمر إلى أوكرانيا؛ الجمهورية البالغة الأهمية لروسيا من النواحي التاريخية والسياسية والجغرافية والاقتصادية، في سلوك على درجة كبيرة من الاستفزاز والغطرسة. تناسى الغرب درساً ربما لا يكاد يغيب عن أي من مؤلفات العلاقات الدولية والتنظيم الدولي الرئيسة، وهو المتعلق بمعاملة مؤتمر فرساي لألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وغالبية هذه الكتابات حمّلت فرنسا المسؤولية الرئيسة في إذلال ألمانيا في مفاوضات ثم معاهدة فرساي، ولم تبرئ بريطانيا من التجاوب مع فرنسا في هذا الصدد، وإن ادعى بعضها أن المملكة المتحدة حاولت إثناء فرنسا عن هذه التوجهات، ولكنها تماشت معها في النهاية. أما الرئيس الأميركي ودرو ويلسون؛ المثالي أو مدّعي المثالية، فلم يكن سعيداً بهذا التوجه، ولكنه اضطر أيضاً إلى مجاراته. وعموماً اعتبرت غالبية دراسات العلاقات الدولية والتاريخ أن إذلال ألمانيا وتركيعها كان سبباً في ظهور الحركة النازية وصعود أدولف هتلر، ووقوع الكارثة الأكبر في تاريخ البشرية حتى الآن وهي الحرب العالمية الثانية، التي وقع خلالها مِن الضحايا والدمار ما لم تعرفه أي حرب أخرى في التاريخ من حيث الحجم والمدى.

لا أعني مما سبق أن إذلال روسيا وصل إلى حد ما حدث مع ألمانيا، كما لا أظن شخصياً أن هناك حرباً عالمية ثالثة مقبلة، وإلا لكانت وقعت خلال التنافس بين العملاقين الأميركي والسوفياتي وذلك للأسباب المعروفة في هذا الصدد، ولكن من المؤكد أن التعالي والتصرفات الغربية اللاحقة على انهيار الاتحاد السوفياتي مسؤولة بدرجة ما عن التوجهات الروسية الحالية، فهذا التعالي الغربي كان وصل إلى مستويات لا مبرر لها، حتى على المستوى النفسي والدعائي، فكم هي الأفلام الأميركية التي تبارت في تصوير روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي كدولة فاشلة ترتع فيها المافيا والجريمة والدعارة، بل والفقر أيضاً، كم مرة تصرفت واشنطن في مجلس الأمن في السنوات التالية للانهيار السوفياتي وكأن روسيا دولة صغيرة لا وزن لها ولا تأثير. ثم عندما تعافت روسيا تدريجاً وبدأت تعود إلى الساحة الدولية في شكل متصاعد، واصل الغرب استفزازاته وكانت مسألة أوكرانيا، وهنا أظن شخصياً أنه لو كان ما حدث مع أوكرانيا، قد حدث شيء مشابه له في المكسيك أو كندا، لما ترددت الولايات المتحدة فى اجتياح البلدين بل ربما استخدمت قدراً غير مسبوق من العنف العسكري.

الكل يعرف أن إحدى حيثيات صعود وسيطرة بوتين على الساحة الروسية، أنه وفّر أموراً عدة لم تكن متاحة للشعب الروسي قبل وصوله إلى الحكم، أولاً الأمن والاستقرار بعد فترة خطيرة غير مسبوقة في انهيار الأمن في البلاد، وثانيها التحسن الاقتصادي أيضاً بعد معاناة صعبة، وثالثاً والذي لا يقل أهمية، فهو الشعور الوطني بالعزة والكرامة، ومن يقرأ في تاريخ روسيا يعرف قوة الشعور الوطني، ولم يظهر تعبير روسيا الأم حديثاً ولا خلال الحقبة السوفياتية، بل هو تعبير يعود إلى روسيا القيصرية. عموماً لم يتعلم الغرب من دروسه وتجاربه، على رغم أنه ينصب نفسه دائماً معلماً للآخرين، فكرّر ما فعله مع ألمانيا، مثلما أخطأ ولايزال في ما يتعلق بمسألة استخدام وتوظيف الإسلام السياسي بأداته الإرهابية، لتحقيق مصالح الغرب وإسرائيل حتى لو تضمّن هذا تهديداً محتملاً. يبقى السؤال الأهم وهو إذا كان الغرب بدرجة كبيرة مسؤولاً عن صعود التوجهات التنافسية الروسية، وإحياء هذه المشاعر لدى شعب تحكمه مشاعر الطموح والعزة القومية، فماذا يمكن أن يحدث في المستقبل، هنا نجد سؤالين، أولهما يتعلق بالتقاليد الديموقراطية في المجتمع الروسي، وهي تقاليد ضعيفة نسبياً؛ مقارنة بكثير من الأمم الأوروبية الأخرى، على أن هذا حديث ينطوي على درجة من التعميم، وربما يحتاج إلى أن نتناوله في سياق منفصل. أما الأمر الثاني والذي سيمس الأوضاع الدولية وينعكس على العالم ومنطقتنا، فهو مسألة سباق التسلح بين أميركا وروسيا، هنا يمكن أن نشير إلى ملاحظات عدة: الملاحظة الأولى، أن ما يشار إليه من أن الاتحاد السوفياتي تعرض للسقوط بسبب الضغوط الاقتصادية لسباق التسلح وكذا أفغانستان صحيح ولكنه لا يكفي، فهناك أسباب كثيرة معقدة تتعلق بفشل التصور الماركسي اللينيني وعدم إمكانية أو صلاحيته للاستمرار، وما ارتبط به من أنماط للفساد والتجمد البيروقراطي.

الملاحظة الثانية، أنه على رغم استمرار تمتع الولايات المتحدة بمركز الصدارة الاقتصادية عالمياً حتى الآن، فإن هذا لا يعني صحة أوضاعها الاقتصادية، والمؤكد قرب انتزاع الصين هذه المكانة خلال عقود زمنية قصيرة مقبلة، كما أن تشبع الاقتصاد الأميركي وتصاعد حدة المنافسة والعولمة كفيلة بأن تؤدي بسباق تسلح جديد إلى إنهاكها أيضاً وليس فقط موسكو ومن ثم التسريع بصعود الصين على قمة النظام العالمي.

الملاحظة الثالثة، أن تجارب الحروب في العقود الأخيرة، وعلى رأسها حروب الولايات المتحدة وروسيا فى كثير من الجبهات، وعلى رأسها أفغانستان والعراق وسورية قد كشفت عن حدود استخدام القوة والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وأن ما ينفق عسكرياً حالياً وبخاصة من جانب الدولتين وبعض دول العالم، هو من الضخامة والسفه بحيث لا بد وأن تثار التساؤلات حول جدوى هذا الإنفاق، وما يدفع له من أثمان مالية واقتصادية واجتماعية، وفي التقدير أن هذا العامل الأخير قد يهدئ إلى حد ما من أي اندفاع في سباق تسلح جنوني أو بالأدق أشد جنوناً مما هو الآن.