ناصر العبدلي
” لن نضيع ثلاثين عاما أخرى من أعمارنا ” تلك كانت كلمات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان التي حدد من خلالها في أحد اللقاءات الإعلامية ملامح مرحلة تنتظر المملكة السعودية ، لكن فيما يبدو هناك من لازال يعيش حالة إنكار للتغيير في أوساط أسرة آل سعود ، وفي أوساط المؤسسة الوهابية ، وهما مؤسستين قاد تحالفهما البلاد طوال ثمانين عاما ، غير أن أجواء التغيير باتت تطرق الأبواب بشدة .
إرهاصات وتداعيات حركة جهيمان العتيبي ” التصحيحية ” كما أسماها في حينه ( بدأت أحداثها في منتصف شهر نوفمبر 1979 ) ، هزت بشدة خيط التطوير والتحديث الدقيق والحذر ، الذي تبنته المملكة العربية السعودية ( بمبادرة من ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز ) في طريقها للتحول إلى دولة ” طبيعية ” ، وأتوقع أن الأمير بن سلمان يقصد أن المرحلة المقبلة ستدشن مشروعه للتخلص من تلك التداعيات المشؤومة على بلاده .
أبرز تلك الإرهاصات ( الجهيمانية ) تبني المؤسستين الحاكمتين في المملكة مايسمى ” الصحوة ” الإسلامية وبات خطابها هو السائد على الساحة ( رسميا ) ، وفتحت الأبواب لرموز الكائن الجديد الذي تشكلت ملامحه على إيقاع الإجتياح السوفياتي لإفغانستان وإقترابه من المياه الدافئة ( الخليج العربي ) ، والثورة الإسلامية التي أطاحت بعرش الطاووس في إيران ، ليفعل مايريد ( أدلجة المجتمع السعودي ) ، وإشاعة التعصب تجاه المرأة والشيعة ، حتى أن الكثيرين أستغربوا كيف يغيب جهيمان جسديا في حين حكمت أفكاره الحقب الأربع الماضية .
أذى تلك الحركة المشؤومة ومقدماتها وتداعياتها لم يقف عند حدود المملكة بل إمتد بدعم منها للأسف ( خوفا من تجربة شاه إيران محمد رضا بهلوي في التحديث ) إلى دول الجوار ( دول الخليج ) ، وبقية البلدان العربية والإسلامية ، وحتى البلدان العربية الأخرى ( الجزائر ، المغرب ، تونس ) التي شهدت مذابح وتدمير تحت شعارات الصحوة الإسلامية ، ومايحدث الآن في العراق وسوريا نتاج تلك التجربة المأساوية .
تحركات الأمير محمد بن سلمان منذ تسلم والده مقاليد الحكم ( تعيين مقرن ومحمد بن نايف وليين للعهد ثم عزلهما ) تظهر أن الرجل يملك مشروعا واضحا ومحددا لايترك شيئا للصدفة ( تجديد الدولة وتحديثها ) ، أهتم بكل التفاصيل ، وأشرف عليها بنفسه ، والإصلاحات الداخلية المتتالية ( معركة الفساد ، تحرير المرأة ، تعيين نائب عام ، إضعاف هيئة المعروف ) ، تؤشر إلى أن عملية التحديث تسير بسرعة كبيرة لكنها متماسكة ، وجزء من عملية التحديث تلك قيام السلطات بإحتجاز شخصيات في أسرة آل سعود يدور حولها شبهات فساد وإستيلاء على مال عام لإسترجاع تلك الأموال ، وقد تمكنت الحكومة فعلا من إسترجاع مليارات الدولارات ، وأدخلت الميزانية العامة للدولة .
رغم أن التبريرات لما يقوم الأمير محمد بن سلمان تستحضر هدفين الأول أولهما إضعاف خصومه ، وثانيهما تحقيق شرعية شعبية بمحاربة الفساد حسب الإعلام الغربي ، إلا أن تلك التبريرات تسير في نفس السياق الذي يسير فيه مشروع الإصلاح والتحديث ، ومانراه من هجوم عليه في الإعلام الغربي عموما والبريطاني خصوصا لايخرج عن رغبة في إبقاء أجواء ” الإبتزاز ” على ماهي عليه ، ومحاولة لعرقلة مشروع الإصلاح والتحديث .
حتى التحركات الخارجية ( حرب اليمن ، حصار قطر ، حرب سوريا ) أسبابها داخلية بحتة ، وترتبط إرتباطا عضويا بمشروع الإصلاح ، فهي أحد أدوات الأمير الشاب في التأثير على الداخل ، إذ لم يكن من الممكن قبول دوره الجديد داخل أسرة آل سعود دون أن يكون هناك تحركا خارجيا بهذا الحجم لإرباك خصوم دوره الجديد داخل الأسرة ، وشل المؤسسة الدينية تجاه أية تدبيرات مضادة يمكن أن تقوم بها بتحريض من أطراف في الأسرة بهدف إجهاض مشروع الإصلاح .
التحديات كبيرة ( إنتقال الحكم من جيل إلى جيل ) والتحديث ، ويبدو أن المشروع لازال يسير كما ينبغي له أن يسير وليست سوى مسألة وقت حتى تكون الأجواء مواتية لإستكمال بقية الإصلاحات ، ولا أستبعد أبدا أن يكون هناك دستور جديد سواء عن طريق لجنة أو مجلس تأسيسي يضع في إعتباره مشروع الإصلاح والتجديد وينظم عملية توارث الإمارة لتكون في أسرة سلمان بن عبدالعزيز أو حتى إنشاء سلالة حاكمة جديدة تكون بدايتها الأمير محمد بن سلمان ، وليس غريبا إذا ماطال التغيير والتحديث أسم المملكة العربية السعودية ، وبقية الأشياء المرتبطة بهذا الإسم .
المشروع ضخم ( التخلص من تركة ثقيلة ) ، والأمير محمد بن سلمان يعمل على قدم وساق للإستجابة لتحدي بمثل هذا الحجم ، صحيح أن أدواته المحلية ليست على قدر التحدي ( وزراء ، ومسؤولين ) ، بسبب أن الخيارات أمامه ضيقة ، خاصة في مثل هذا الجو المشحون بالصراع والتنافس والإصطفافات مع هذا الطرف أو ذاك ، لكن مع كل ذلك هناك فرصة كبيرة أن ينجح مشروع التحديث وتتحول المملكة إلى دولة طبيعية قائمة على مؤسسات حقيقية .