مقالات

محمد بن سلمان يستحق الدعم «ظالماً أو مظلوماً»

حسن منيمنة

لا بد لولي العهد السعودي محمد بن سلمان من إعادة النظر ببعض خطواته الجسورة، ولا سيما في الشؤون الخارجية، سواءاً في اليمن حيث تحولت ضربته الاحترازية إلى حرب استنزاف كان ضحيتها الشعب اليمني، أو في قطر حيث أنتجت المقاطعة نتائج عكسية، بعد أن كان من المفترض أن تصعق السياسة القطرية لتبديل توجهاتها. ولكن في حين أن المؤيدين للأمير الشاب والمعجبين به قد أفرطوا إلى حد التخمة في إغداق الإطراء والثناء عليه، فإن النقد الموجّه إليه يشوبه كذلك الكثير من الطعن المجاني وإساءة الظن، وتجاهل التركيز على أهمية المرحلة بالنسبة للسعودية وللمنطقة ككل.

فالإعلام الناقد لحفاوة استقبال الأمير في واشنطن خلال زيارته الأخيرة، أصرّ على التذكير بسجل المملكة العربية السعودية الرديء في مجال حقوق الإنسان، كما استدعى الاتهامات، على بطلانها، حول ضلوع السعودية باعتداءات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، كما الاتهامات الأكثر صدقية حول دور المؤسسة الدينية السعودية في الترويج للقراءات المتشددة والقطعية للإسلام في أرجاء العالم. غير أن هذا المنحى النقدي تجاهل، سهواً أو عمداً، الخطوات المتسارعة والجريئة لمحمد بن سلمان في التصدي للتشدد الديني، بل أدان الأمير لعدم تمكنه من حل كافة علل الدولة والمجتمع والثقافة في السعودية بضربة واحدة.

الأكيد هو أن هذا الأمير الشاب، والذي قال في ما يفتقد التواضع أن «طموحه سوف يبتلع كافة المشاكل»، يبذل جهوداً فائقة، فيصيب أحياناً، ويخطئ أحياناً أخرى.

ولا شك أن بعض مبادرات الإصلاح التي أقدم عليها محمد بن سلمان لم تكن في الحسبان إطلاقاً قبل اعتماده لها. فهو قد كفّ يد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أداة فرض التشدد الشمولي الأولى على المجتمع السعودي، مبدّلاً بذلك، وفي العمق، المشهد الاجتماعي والثقافي في المملكة. يذكر هنا أن الملوك الإصلاحيين السابقين، مثل الملك فهد في الثمانينات ثم الملك عبدالله في المرحلة الماضية، كانوا قد تمنّعوا عن أي تحدي حقيقي للمؤسسة الدينية تهيّباً من نفوذها القوي في الأوساط السعودية المحافظة. وكانت حاجة الأسرة المالكة إلى ضمان تأييد كبار العلماء لها قد ارتفعت مع تصاعد التحديات لمشروعيتها من جانب أطراف متشددة ومتطرفة.

أما محمد بن سلمان، فقد اختار مقاربة مختلفة تجمع بين الجرأة والمخاطرة، وقوامها المواجهة المباشرة والكاملة مع التشدد والقطعية بمختلف أشكالها، الجهادية كما الاجتماعية والمؤسساتية. ومعظم التقييمات حول جدوى مقاربة من هذا النوع قبل أن يقدم عليها محمد بن سلمان كانت تعتبرها غير واقعية محتم عليها الفشل. ولكن محمد بن سلمان قد حقق منسوباً من النجاح بل تمكن من استجماع مقادير من التأييد الشعبي، ما يفرض إعادة النظر بالمسلمات الضمنية حول طبيعة القناعات المحافظة في السعودية. لا يمكن بالطبع تجاهل إمكانية هجمة مضادة من التوجهات المتشددة. إلا أن الاندفاع الحالي هو باتجاه تعزيز أوجه النجاح الهامة والتي حققتها الخطوات الإصلاحية، ما يؤسس لتحول نوعي على مستوى المجتمع والثقافة تنتفي معه إمكانيات التراجع.

والقراءة التي يرددها محمد بن سلمان حول مكانة الدين في المجتمع السعودي وطبيعته، ومقولته أن العام ١٩٧٩ يشكل نقطة التحول باتجاه الغلو بالتشدد الديني، كما تصويره لصدر الإسلام على أنه حافل بالتسامح والتعددية، تجد بالتأكيد من يعترض على تفاصيلها، في أوساط علماء الدين المسلمين كما لدى الباحثين الغربيين المعنيين بتاريخ المنطقة، وصولاً إلى وصفها بالتبسيط والتسطيح بل بالسذاجة. أما الواقع فهو أن قراءة محمد بن سلمان هذه هي أقرب إلى القناعة الذاتية السائدة لدى غالبية المسلمين. أما إذا كان الإسلام ما هو معروف بالتواتر والإيمان لدى المسلمين، فإن الدين المُعاش والذي يظهره محمد بن سلمان، وجمهور السعوديين، وجمهور المسلمين، هو الطرح الحقيقي المضاد للقطعية، دون الحاجة إلى تلفيق صيغة «معتدلة» من الدين.

أما الإنجاز الأول لمحمد بن سلمان، في حال تحقق له النجاح، فهو في تبديل بنية الحكم السياسي في المملكة العربية السعودية، والتخلي عن الاستخلاف الأفقي (أي انتقال الحكم من الأخ إلى الأخ ضمن أبناء الملك المؤسس)، إذ هي صيغة غير قابلة للاستمرار، إلى الاستخلاف العامودي (من الأب إلى الابن)، وهي صيغة أكثر ثباتاً. ويبدو جلياً أن الأمير الشاب قد لجأ إلى مزيج من الإقناع والإكراه للوصول إلى مبتغاه، إلا أن قدرته على إدارة التوقعات والتجاذبات والتحالفات ضمن الأسرة المالكة هي بالفعل الاختبار الأول لأهليته للقيادة.

كما أن محمد بن سلمان يسير باتجاه تبديل العلاقة بين حكومة المملكة وسكانها، والتخلي عن نموذج الرعاية الفائضة إلى حد الوصاية من خلال تخفيض الدعم عن السلع والخدمات أو إلغائه، والمباشرة بفرض الضرائب، بل طلب الإنتاج من جمهور اعتاد أن يتوقع المستحقات. ومع ذلك، ثمة امتحان إضافي أمام هذا الأمير الشاب في فترة لاحقة، وهو وجه العملة الآخر لتوجهه الإصلاحي، فهل سوف يكون قادراً على الإقرار بحق المجتمع السعودي بالمطالبة بالتمثيل الصادق والمساءلة والمشاركة في صياغة القرارات الوطنية؟

وفى ما يتعلق بالسياسة الخارجية، لا شك أن محمد بن سلمان قد بدّل للتوّ “الأسلوب” السياسي للملكة العربية السعودية. فالرياض كانت على الدوام حليفاً تعتمد عليه الولايات المتحدة، يساير ويتابع توجهات واشنطن ويرسم الخطط التي من شأنها تحقيق الهبوط الهادئ لها في الشؤون الاقتصادية كما السياسية. أما مع صعود محمد بن سلمان، فثمة «سعودية جديدة» قد ظهرت، وبانت أفعالها في اليمن وقطر، كما في المعاملة الخشنة لرئيس الوزراء اللبناني. هي مقاربة لا تزال في مرحلة التشكل، إذ يتأرجح محمد بن سلمان بين الجرأة والتهور.

لم تكن واشنطن مستعدة لهذا التوجه الإقدامي، ولا تزال في أوساطها ودوائرها تسعى إلى تعديل توقعاتها وردود فعلها إزاءه. ولا شك هنا أن الشجاعة التي يتحلّى بها محمد بن سلمان من شأنها أن تضعه في دور تاريخي. بل أن محمد بن سلمان في موقع مميز للمساهمة في إيجاد حل للمأساة الفلسطينية ولتحقيق السلام مع إسرائيل. فلو أن نهجه ارتقى إلى الحكمة والثبات، لكان سادات جديد للمنطقة، بل لكان مايجي جديد لوطنه (مايجي هو الإمبراطور الياباني الذي نقل بلاده من الإنطواء الثقافي إلى الانفتاح الحضاري والنجاح التاريخي في القرن التاسع عشر). ولكن تحقيق الإنجازات الواقعية يتطلب قدراً من التواضع لا يزال غائباً هنا.

ومحمد بن سلمان، ومعه قادة كل من الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، يرون أن إيران التواقة إلى الهيمنة على المنطقة تشكل العائق الأول أمام التطرق المجدي لهذه التحديات على المستوى المحلي لكل دولة كما على مستوى المنطقة. إلا أن هذا الوضوح في الرؤية لم يترجم بعد إلى سياسة متماسكة. فكل من طهران وموسكو تبدو مثابرة على سياسة من الكسب التدريجي الصبور لتحقيق النفوذ في المنطقة، فيما يعمد محمد بن سلمان إلى التعويض عن غياب التصور المضاد في كل من الرياض وواشنطن بالتأكيد الصادح بحتمية الغلبة وبالتصعيد الكلامي المتراكم. لا بد من وضع سياسة أنجع موضع التنفيذ.

تنقل مصنفات الحديث عن رسول الإسلام قوله «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، وتفيد بأن سؤال أحد صحابته كان «أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً»، لتدرج جواب الرسول في الصيغة الأكثر شيوعاً «بأن تنهاه عن الظلم».

ليس محمد بن سلمان المثال الأعلى للتعقل والحكمة. ليست هذه الصفات من منال أي سياسي. إلا أنه إزاء غياب الواقعية عند المطالبة بـ «تحول ديمقراطي» للمملكة، وفق ما ينادي بعض النقاد، صدقاً أو نفاقاً، لا بد من الإقرار بأن محمد بن سلمان يجسد سبيلاً نافذاً لإنقاذ بلاده، وربما المنطقة، من مصير الانحلال والانهيار والذي تنزلق إليه.